حكايا ناس

طه حسين وعبد الناصر وحفل عشاء للعماليق

بعد أن ألقى جمال عبد الناصر أحد خطاباته في الإذاعة، في نهايات عام 1954م، وبعد شهور قليلة على توليه منصب رئيس الجمهورية، كان طه حسين ينتظره في الغرفة الرئيسية، انحنى إليه قليلًا وقال: هل تتذكرني يا سيادة العميد؟

انعقد حاجبا طه حسين في البداية وهو يبحث في أغوار ذاكرته عن طرف خيط، ثم ابتسم قليلا وقال: هذا اللحن لم يتغير منذ سنوات بعيدة. وطفق العملاقان يضحكان.

تعلم طه حسين منذ أن حفظ القرآن في سن صغيرة، أن يلتقط محدثه إذا لحن أثناء الكلام، أي إذا نطق اللغة العربية بشكل ركيك أو غير سليم. ويُقال إنه كان يُميز مُحدثيه من طريقة نطقهم. وبعد صدامه الشهير مع حكومة صدقي باشا عام 1932م، والذي فُصل على أساسه تعسفيًا من منصبه كأستاذ في كلية الآداب وعميد لها؛ انتقل إلى العمل كمستشار لوزير المعارف. وخلال زيارته المرافقة للوزير، لتفقد مستوى التعليم والأنشطة الطلابية في إحدى المدارس، حضر عرضًا مسرحيًا يقدمه طلاب إحدى المدارس عن رائعة وليم شكسبير «يوليوس قيصر». وبعد أن انتهى العرض سلم أفراد العرض على الوزير ومستشاره، وعندما استقرت يدُ البطل الذي أدى دور يوليوس قيصر، في يد طه حسين، شد عليها قليلًا وقال: كان أداؤك صادقًا.. ولكن يا حبذا لو كان نطقك سليمًا أكثر. حينها طأطأ الولد خجلًا، ثم باغته العميد: ما اسمك؟ فأجاب بصوت خافت: جمال عبد الناصر حسين.

مرّ أكثر من عشرين عامًا؛ دارت الدنيا وانقلبت كل الأشياء، وصار الولد الخجول يؤدي أعظم أدواره، ولكن هذه المرة على مسرح كبير بحجم الحياة. وكان العميد في انتظاره طوال الوقت ليستمع إليه؛ ولكن هذه المرة كرئيس للبلاد.

لم يكن طه حسين بعيدًا عن الصدام السياسي والاجتماعي. فمن معاركه داخل الجامعة التي حولته إلى المحاكمة بتهمة التعدي على الدين الإسلامي، إلى نضاله مع حزب الأحرار الدستوريين ومساندة التحولات الليبرالية التي قطعتها مصر بعد ثورة 1919م. وحتى قنبلته الجريئة التي فجرها في وجه الملك فاروق بعد أن تولى وزارة المعارف عام 1950م عندما عرض عليه مشروع مجانية التعليم الشامل. والذي اعتبره الملك فاروق دعوة إلى الشيوعية، وامتعض وثار وغضب، ولكن لم يكن هناك مفر من إصرار الدكتور طه حسين على دعوته. فهي ليست شعارًا يردده “التعليم كالماء والهواء”، بل المسألة لها أبعاد أكبر، مرتبطة بإيمانه أن الله وضع أمامه الكثير من العوائق؛ وعرضه إلى مشاق لا نهائية، حتى يكون سببًا في تقصير المتاعب على من سيأتي بعده.. فليس الجميع مثل طه حسين أو بعضًا منه.

مرحلة إعداد العشاء

قال توفيق الحكيم في مقال له في مجلة الرسالة في بداية الأربعينيات. إنه يشعر أن الدكتور طه حسين صار غريبًا عليهم. ويقصد أنه صار غريبًا على الأدباء والمثقفين، منذ بدأت السياسة تختطفه شيئًا فشيئًا. وهو يتنقل بين المناصب من العميد حتى الوزير. إلى أن حار الأدباء في أمره وأمرهم. وفكروا: عندما يتعاملون معه، فهم يتعاملون مع طه حسين الأديب؟ أم الأكاديمي؟ أم السياسي البارز والوزير السابق؟

بعد أقل من عامين؛ ترك منصبه كوزير للمعارف في نهايات عام 1951م. وآثر أن يبتعد عن الصخب السياسي. ولكن ما هي إلا أشهر قليلة، وتحرك الضباط الأحرار للإطاحة بالملك. وبزغت شمس تاريخ جديد منذ 23 يوليو 1952م. وتصدر المانشيت الرئيسي لجميع الصحف: «بيان حركة الجيش المباركة».

حينها كان طه حسين يقضي إجازة الصيف في روما، ويتلقف الأخبار من الصحف والإذاعات الأجنبية. وبعد مرور أسبوع زخم بالأحداث. منها تنازل الملك عن العرش ورحيله عن البلاد. وتولي علي ماهر رئاسة الوزراء. وتفويض الجيش وعلى رأسه محمد نجيب بإدارة البلاد. أرسل طه حسين إلى جريدة الأهرام مقالًا بعنوان «صورة». نُشر في عدد 2 أغسطس عام 1952م يقول فيه:

«الجيش الذي أثار هذه الأحداث، لم يُثرها عن طمع، ولا عن طموح، ولا عن رغبة في منفعة أو رهبة من مضرة. وإنَّما أثارها؛ لأنَّ المدنيين كانوا قد وصلوا من العجز عن تقويم المعوج وإصلاح الفاسد، إلى حيث لم يكن بد من أن يقوم العسكريون مكانهم بما حيل بينهم وبين القيام به».

اكتشف العميد أن هناك اختلافًا بين من يحكم ومن يفكر

أغلب الظن أن الدافع وراء هذا المقال هو خوفه من أن يحسبه الشبان العسكريون واحدًا من أنصار النظام القديم. فيمنعون دخوله البلاد، أو يحتجزونه فور وصوله. ولذلك يمكن اعتبار هذا المقال مجرد إجابة على تساؤل افتراضي، لم تصرح به الألسنة. ولكن طه حسين رآه لامعًا في كل عين.. إذا كانت تساند دعوتنا بفساد الملك وتؤيد عزله؛ فلماذا كنت صامتًا على الفساد طيلة حياتك؟

اعترف طه حسين -كأنه يتطهر- أنه هو ورفاقه من الأدباء والسياسيين، قد فشلوا وعجزوا وخافوا على أنفسهم؛ فصمتوا عن الفساد حتى استشرى في الأوردة. وفي هذا المقال يستخدم طه حسين للتعبير عن حركة الجيش كلمة «ثورة» لأول مرة.

عندما عاد طه حسين إلى القاهرة، لم يقبض عليه أحد، ولم يستجوبه أحد. وظل يتابع من بعيدٍ ما يجري، ويكتب هنا وهناك ويتحدث عن الآمال الموعودة التي أشعلتها حركة الجيش أو ثورة 23 يوليو. ولكن طه حسين في تلك المرحلة كان قلبه مغسولا بليبرالية الزمن الفائت، والدستورية التي نهضت الملكية المصرية عليها بعد نضال طويل. فكان طه حسين يعبر عن الأمور كما يفهمها، وليس كما يعرفها عبد الناصر والشبان الجدد، فكان يقول التوزيع العادل للثروة، وليس الإصلاح الزراعي. وأصحاب الثروة، لا الإقطاعيين، وتشغيل الأموال وليس التأميم. واكتشف العميد أن هناك اختلافًا بين من يحكم ومن يفكر.. ولذلك قرر أن يرجع بمقعده إلى الوراء قليلًا ويكتفي بمراقبة ما يحدث.

العماليق في كتاب واحد

عُرف عن طه حسين إعجابه بالغرب، ولكن هل هذا الإعجاب سببه التحرر الاجتماعي والديني الغالب على المجتمعات الغربية؟ التحرر هي كلمة السر.. ولكن التحرر من ماذا؟ عندما خلع طه حسين العمة والقفطان، خلع معهما سلطة النمط. وربما هذا هو سر الإعجاب بالغرب، لأن هناك وجد طه حسين مساحة مفتوحة طوال الوقت للاختلاف والتعدد المذهبي والفكري.

طه حسين- هذا مذهبي
كتاب هذا مذهبي- بإشراف الدكتور طه حسين

من ضمن الكتب التي لفتت انتباه طه حسين في هذه النقطة: التعددية المذهبية. هو كتاب السير إدواردز مور «This I Believe»، وهو عبارة عن مجموعة من الحلقات الإذاعية. استضاف خلالها مجموعة من الرموز الثقافية والسياسية والشخصيات البارزة في المجتمع البريطاني. وبمجرد ما كان الضيف يستقر أمام الميكرفون، كان يسأله «مور» سؤالا واحدا فقط: ما هو مذهبك في الحياة الذي جعلك تصنع كل ما صنعت؟

ألهم طه حسين بالفكرة، وأراد تطبيقها في كتاب يضم نخبة من أعلام الوطن العربي في مختلف المجالات. يفتح كل منهم قلبه وذاته ويروي لنا حكمته التي صنعته على مر سنوات الصعود والنجاح. وبالفعل خرج كتاب «هذا مذهبي» عن دار الهلال عام 1955م. وسواء عرض طه حسين أو عُرض عليه؛ أن تكون للكتاب فاتحة تروي الفترة الدقيقة التي تعيشها مصر من حكم الشباب. فإن أول شخصية ملهمة في الكتاب تحدثت عن مذهبها في الحياة، هي أصغر شخصيات المتحف سنًا، أكبرهم إنجازًا على حد وصف طه حسين، وهو الرئيس جمال عبد الناصر.

جاء مقال جمال عبد الناصر في صدر كتاب «هذا مذهبي»، بعد مقدمة الدكتور طه حسين للكتاب بشكل عام، وللرئيس بشكل خاص، بعنوان «ثلاث حقائق أؤمن بها».

يقول عبد الناصر: «لست أزعم أنني أعرف نفسي، فتلك منزلة من المعرفة لا يبلغها بشر… فلو أن إنسانًا عرف نفسه العرفان الحق لطاش وضل، أو لقعد به اليأس عن كل محاولة. إن إرادتنا تتعلق بأشياء كثيرة نطمع في تحقيقها… إن بعض إرادتنا هي مواريث أجيال عريقة في القدم، تحدرت في أصلاب آبائنا جيلًا بعد جيل حتى انتهت إلينا؛ فاتحدت منها في نفوسنا عناصر من الماضي البعيد، والحاضر الماثل. وتفاعل مع بعضها بعض تفاعل المادة والمادة في المعمل الكيميائي، فكان من تفاعلها إرادة. بعض أسبابها في أيدينا، وبعضها من البعيد البعيد وراء الزمان والمكان والمادة والحاضر والملموس.. تلك هي الحقيقة الأولى التي آمنتُ بها».

ويؤكد جمال عبد الناصر في مقاله الشاعري، أن ثورة 23 يوليو، ما كانت لتنجح لولا إنها منبعثة من إرادة إيجابية عازمة على التغيير. وليست إرادة حالمة، مسجونة في الشعارات، والأكاذيب الدعائية الفارغة. والمُلاحظ على المقال إنه مكتوب بلغة رفيعة للغاية، وأغلب الظن أنه مرّ بمرحلة تحرير أو تعديل للصياغة. حتى يليق الزعيم بحفل العشاء الذي دعا له طه حسين كل العماليق من الشرق والغرب. على رأسهم العقاد، وأحمد لطفي السيد، وأحمد حسن الزيات، وويل ديورانت وغيرهم.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى