زمن المثقف الافتراضي.. الصغار يدعون الكبار للقراءة


متى أصبح كل شيء في متناول يدك؟ عندما صرتَ كبيرًا في السن، أم عندما صرت متطورًا في قدرتك على التعامل مع التكنولوجيا؟ يُمكن القول إنه في ظل التوسع في استخدامات الإنترنت؛ أصبحت كل الحدود بلا معنى، وسقطت اعتبارات التوزيع الجغرافي في الريف أو المدن، أو البعد عن العاصمة أو القرب منها. ومهما كنت كبيرًا أو صغيرًا في السن؛ صار كل شيء أقرب إليك من طرفة عين، بنقرة واحدة. ذلك أن الأمر يتوقف على اختيارك.. ماذا يدور في عقلك الآن؟
مُلتقى التعارف الأدبي
تزايدت مؤخرًا نسبة الإقبال على القراءة، والتفاعل في مجموعات ثقافية عبر «فيس بوك»، خاصة الصغار دون الـ 18 عامًا، وتزايد دور الصغار فأنشأوا قنوات عبر «يوتيوب»، يزداد الإقبال عليها من الكبار والصغار يومًا بعد يوم. ففي العام الماضي احتفت وسائل الإعلام على نطاق واسع بـ «إسماعيل آسر»، الطالب في الصف الثالث الإعدادي، كأصغر «بوكتيوبر» في مصر، حيث بث من خلال قناته عبر «يوتيوب»، مراجعات لعدد كبير من الكتب الثقافية المتنوعة والروايات.
يُمثل الفضاء الإلكتروني شبكة من التواصل بين ذوي الاهتمامات المشتركة، حيثُ يتأثر البعض بأسلوب البوكتيوبر وطريقة عرضه للكتب، فظهرت تجارب جديدة، آخرها قناة «عزيزي القارئ» لـ فارس مصطفى، الطالب في الصف الثالث الإعدادي، والذي يقول ألهمتني قناة «علامة تنصيص» لإسماعيل آسر.
الثقافة الافتراضية
لم يختلط فارس بمجموعات القراءة على أرض الواقع، ولم يتردد على نوادي الأدب في قصور الثقافة القريبة منه، ولم يسهم نشاط مدرسي في دفعه للشعور بأهمية القراءة، لكنه تأثر بمحتوى «البوكتيوبر» عبر «يوتيوب» مثل أحمد حسن صاحب قناة «ببساطة جدًا»، والمجموعات الثقافية عبر «فيس بوك» مثل «نادي القراء المحترفين» وغيرها، ويمكن القول إن الاستخدام الرشيد للإنترنت، جعل فارس يتطور معرفيا كما نلاحظ من قناته التي عرض خلالها لكتابات أحمد خالد توفيق ثم لكتابات من العيار الثقيل مثل يوسف إدريس ونجيب محفوظ وديستوفسكي وغيرهم.
اعتقدُ أن نموذج مراجع الكتب (بوك تيوبر) صغير السن، الذي يلخص القصص والروايات الدسمة في مقاطع فيديو عبر الانترنت؛ سينتشر كثيرًا الفترة القادمة، خاصة مع تطور أدوات التصوير عبر الهواتف الذكية بدرجة نقاء عالية، وتوفر برامج مونتاج للهواة، بالإضافة لإمكانات التواصل الحي عبر يوتيوب والسوشيال ميديا. وفارس مصطفى ليس إلا مجرد حلقة في سلسلة سبقته من الصغار دون الـ 18 عامًا، في مجال بوكتيوبر.
أحبّ «فارس» مشاركة شغفه مع آخرين، ولذلك أنشأ قناة «عزيزي القارئ»، ويقول: «القراءة جعلتني أتخلى عن تفاهتي وأشعر بقيمتي». يستخدم فارس عددًا كبيرًا من الكلمات للتعبير عن فكرته، وهو يصر أن يفهم محدثه فكرته بالتحديد، وليست فكرة شبيهة، أو مقاربة، وبالتالي فإنشاء قناة على اليوتيوب وتكبد عناء التصوير بالموبايل وعمليات المونتاج باستخدام البرامج البدائية، له سبب وجيه، فهو يريد أن يساعد الجميع على الشعور بلذة المعرفة من خلال القراءة، إنها مبادرة لكي نشعر جميعًا بذواتنا. ويقول «فارس»: «الإنسان الذي لا يُقبل على المعرفة؛ من السهل أن يُخدع، لأنه ببساطة جاهل».
دعم الأسرة
ينتمي «فارس» لأسرة متوسطة، ينعم بين أفرادها بالتفاهم والحب. صحيح أن والديه لا يشاركاه نفس هوايته، وقد لا ينتميان لجيل الهوس بالقراءة، لكنهما رغم ذلك دفعاه في طريق حب القراءة، ولم يدخرّا جهدًا لذلك. يقول والد فارس: «طلب مني مكتبة، فأهديته مكتبة، وساعدته مع والدته وأخته في تركيبها، وصار يستخدمها كخلفية لتصوير مقاطع الفيديو الخاصة بقناته، الأمر بسيط ولا يحتاج العناء الذي تعقدّه بعض الأسر في تفهم اختلافات أبنائها».
«أكسبني والدي شغف المعرفة». يقول فارس إنه مدينٌ لوالده بحرصه على اصطحابه لمعرض الكتاب وشراء الكتب، بل وحضور الفعاليات الثقافية التي يحييها المبدعون في ذلك العرسُ الثقافي الكبير. أما والدته فقد اعترضت في البداية على استخدامه لأحد جدران المنزل كخلفية، لكن يبدو أن فارس بجانب إصراره على ما يريد، فهو لديه موهبة فريدة في الإقناع: «أردتُ تزيينها ببعض الديكورات، فرأتْ أن ذلك تشويها لها، لكنها اقتنعت في النهاية». ويستعد فارس بمعاونة أسرته على تجهيز غرفة كاملة في منزله لتصبح استوديو لقناته التي سيبث منها مراجعات الكتب.

دعم المجتمع العام
الكتاب والمثقفون عليهم دورٌ كبير في دعم مثل هذه التجارب، ليس لتشجيع فارس وأمثاله، ولكن لكي يتحقق الغرض الحقيقي من الثقافة وهو التواصل الفعال. على سبيل المثال يصف فارس الرسالة التي وصلته من الكاتب والروائي أشرف العشماوي، بأنها طوق نجاة، جعلته يدرك أنه يسير في الطريق الصحيح، وأن التفاعل الضعيف الذي حققته قناته في البداية لا يدل على أي قصور منه.
«مراجعو الكتب يكدحون، ولا طائل»، هكذا يقول فارس، وهو يعي بشكل جيد ما هو تخصص مراجع الكتب، ودوره كيف يختلف عن الناقد والباحث الأكاديمي، وأعتقد أن وعي فارس السابق على سنه يستفزنا لأن نضعه في مرمى الأسئلة الحرجة ونسدد له المزيد من الأسئلة الصعبة، مثلا: ما هو السبب وراء ذلك يا فارس؟
يرتبك قليلًا، ويدعي أنه ليس مؤهلا للإجابة، ثم بقليل من التعنيف يخرج صوته خافتًا: «أعتقدُ أن سبب ذلك هو تحول كل شيء لفن رديء، فالسينما التافهة غلبت على السينما الجميلة، والكتب يكتبها كتاب لا يعرفون الكتابة والغريب أنهم يصبحون مشهورين!».
يُعاني «فارس» من النظرة السطحية له وتقييمه على أساس صغر سنه، والحقيقة هو لديه حق، فالكتب التي ينكبُّ على قرائتها تخبره أن هناك صغارَا كثُر تركوا بصمات بارزة على سطح الكوكب، فالتقدم في السن لا يحتاج من المرء عناء أكبر من أن يأكل ويشرب وينام، ثم لا يعلم من بعد علم شيئًا.
يقول «فارس»: «يسألني كثيرون حول ما خبرتي في الحياة؟ ما هي الشهادات التي أحملها؟ ولكنني أقول إنه ليست مهمتي تعليم الناس، بل مهمتي ببساطة هي أن تحترم رأيي لا أكثر».
أعتقد أن وعي فارس المُبكر يمثل ظاهرة في حد ذاتها، ولكن ليس ذلك فقط المدهش، بل ما يُلفت الانتباه هو أن هذا الرقي المعرفي تمت صناعته افتراضيًا، عبر الانترنت فقط، ما ينبغي أن ينبهنا إلى آمال المستقبل لو تمكنا من توجيه عدد أكبر من الصغار لنفس تجربة «فارس»، ودراسة مدى قدرتنا على بلورة اهتماماتنا وأهدافنا؛ ولو بشكل افتراضي.