«الطاعون».. مُلهم الأدباء والفنانين على مر التاريخ
الألم قرين الإبداع والحزن يرافق الفن أينما خطى، فكلما اشتدت وطأة المُصاب أو الكارثة، كلما هُيأت الأجواء لخلق المزيد من الرقي والإبداع.
على مر العصور، ثمة معاناة وهناك بعض من الألم، يمكن أن يكون جمعيًا وفي بعض الأحيان فردي، يترك للتاريخ علامة إبداعية إضافية يؤكد على تلك الفلسفة “من رحم المعاناة يُولد الإبداع”. والطاعون أو “الموت الاسود” هو المصاب الأكبر والحدث الجلل الذي هز أركان البشرية خلال القرون الماضية، حيث رافق البشر على مدار عقود كثيرة. فكلما انحسر في حقبة، عاد وانتشر في حقبة جديدة. الأمر الذي دفع الكثير من الأدباء ليتخذونه ملهمًا لهم في توثيق وتخليد أهم الأعمال الفنية على مر العصور.
نيوتن وسر الجاذبية
في عام 1665 كان العالم الشهير إسحاق نيوتن يدرس في جامعة “كامبريدج” البريطانية. وفي هذا الوقت كان الموت الأسود أو الطاعون يضرب مدينة لندن ولا يترك بشرًا أو حيوانًا إلا وفتك به. الأمر الذي دفع نيوتن للانعزال بعيدًا عن تلك المدينة الموبوءة والعودة للريف مرة أخرى. وهناك تفرغ إسحاق نيوتن حوالي 18 شهرًا للعمل على تطوير نظرياته وأبحاثه، والغوص في أعماق الطبيعة، واكتشف حينها نظرية الجاذبية الأرضية. وهناك العديد من الدراسات التي تؤكد على أن اكتشاف الجاذبية الأرضية من قِبل نيوتن لم يكن وليد الصدفة بعد سقوط تفاحة على رأسه كما يشيع البعض فهي رواية غير مؤكدة على الإطلاق. لم يكن هذا اكتشافه الوحيد؛ فقد وضع العديد من الدراسات المتعلقة بـ”التفاضل والتكامل”، وتطويرها بصورة دقيقة، وهو ما لم يكن يفعله إذا بقي أسير صخب المدينة.
شكسبير
يؤكد التاريخ والكثير من ناقليه، على أن الأديب المسرحي العالمي “ويليام شكسبير” ألف العديد من أعماله الأدبية في فترات الحجر الصحي وفترات تفشى فيها الطاعون في كافة أنحاء مدينة لندن البريطانية، وهناك بعض الأقاويل غير المؤكدة أن روايته الشهيرة “الملك لير” قد كتبها في فترة تواجده في الحجر الصحي في وقت كانت مدينة لندن تُعاني من إعلاق كامل لكافة منشآتها ومسارحها ومكتباتها.
ووفقًا لمقال نشره الأستاذ بجامعة “لينفيلد دانيال” بولاك بيلزنر، فإنه في الفترة بين الأعوام 1603 و 1625، أُغلقت المسارح في لندن بعد أن طغى شبح الموت على مدينة الضباب، فاضطر شيكسبير وفرقته الاعتماد على الهدايا التي يقدمها الملك لهم وجولات إقليمية داخل القرى المجاورة. ولم يكن هذا الموت الأسود بعيدًا عن عائلة شكسبير، ففي أثناء تفشي الوباء في المملكة المتحدة، رحل شقيقه الأكبر بسببه ثم لم تمر أيام قليلة حتى قضي ابن شقيقه الأصغر الذي لم يكمل عامه الحادي عشر حينذاك.
صاحب «الديكاميرون»
قد لا يعرف الكثيرون من هو مؤلف رواية «ديكاميرون» أو الكوميديا البشرية تلك الملحمة الادبية التي رصدت من منظور مجتمعي بحت كيف طارد شبح الموت الأسود البعض ففروا منه من المدينة صوب الريف، ومؤلف هذه الرواية هو الكاتب الفلورنسي “جيوفاني بوكاتشو”، وتأتي حكاية هذا الرجل الذي كتب معظم أعماله في فترة الطاعون، أكثر دراماتيكية وتأثيرًا من غيرها، ففي عام 1348 وحينما ضرب الطاعون مدينة فلورنسا خلف ورائه العديد من القتلى كان من بينهم والدي هذا الكاتب، فأراد أن يوثق تاريخ تلك الفاجعة من خلال كتابة رواية توضح كيف يصارع الفرد للنجاة من فكي هذا الوحش بقصة عشرة من الشبان يهربون من الطاعون في المدينة إلى إحدى القرى في رحلة استمرت أسبوعين.