حكايات التعب والشقاء1│اضطراب الصدمة

ربما اعتدنا قديما أن نقتني دليلا للتليفونات، أو لأهم الأماكن الأثرية، أو لاستخدام الثلاجة أو الغسالة.. إلخ. لكن الدكتور نبيل القط استشاري الأمراض النفسية والعصبية، يُقدم لنا دليلا للصحة النفسية بعنوان «حكايات التعب والشقاء».
«حكايات التعب والشقاء» هو كتاب أنيق متوسط الحجم صدر مؤخرًا؛ عن دار المحروسة. استطاع الدكتور نبيل القط فيه أن يرصد أشهر الاضطرابات النفسية. ما يميز الدليل أو الكتاب أنه مصمم للمختصين وغير المختصين. ويعرض بشكل مبسط أعراض المرض على لسان صاحبها؛ ثم يبدأ في تفنيد المسببات، والنتائج المتوقعة ودرجة الخطورة.
ويصف كذلك أشهر الأدوية المعتمدة لعلاج كل مرضـ وطريقة تفاعل المخ والجسد معها. وأخيرًا؛ وهو الشق الأهم عرض الخيوط الرفيعة التي تفرق بين كل اضطراب وآخر. فغالبا ما تتشابك الأعراض وتتداخل؛ لكن بعد الانتهاء من القراءة يمكنك بسهولة أن تفرق بين الدرجات المختلفة من شدة الاضطراب ومسمياته الطبية. وهو ما أعتقد أنه سيكون مفيدا للمتخصصين والباحثين في الأمراض النفسية.
عرض الدكتور نبيل ١٦ اضطرابا. لكننا في هذه السلسلة سنتحدث عن خمسة اضطرابات. لعلها الأكثر شهرة أو انتشارا. ومعظم مصابيها نقابلهم كثيرا. وهي: اضطراب الصدمة، الاضطرابات النفسية للنساء. اضطرابات الولع الجنسي، الاضطرابات النفسية في الطفولة والمراهقة. وأخيرا الاضطراب الأشهر وهو اضطراب القلق.
اقرأ أيضًا: حكايات التعب والشقاء 2│الولع الجنسي
من هو «سامح» في حياتك؟
ترقرقت عيناي بالدموع علي الصفحات دون قصد مني وأنا أقرأ إهداء كتاب «حكايات التعب والشقاء». أحب دوما أن أبدأ بالإهداءات، فهي استهلال صادق بجنود مجهولين دعموا الكاتب خلال رحلة جنونه وتقلباته المزاجية خلال فترة التأليف. لكن إهداء هذا الكتاب كان القصة الحقيقة وراء «سامح» الطالب المتفوق بطب المنصورة، والذي كان يعطي الطلاب ملخصات المحاضرات ويحبه الجميع لخفة ظله ومرحه وتعاونه..
يتحدث الدكتور نبيل القط بسلاسة يتخللها أسي يصل القلب كالسهم النافذ عن تغيرات «سامح» خلال سنوات دراسة الطب الطويلة. وكيف تحول إلى شخص غريب بملابس متسخة قذرة ويعنف الزملاء ويرسب في الدراسة حتى أنه اعتدى بالضرب علي زملائه!
حاول الأهل الذين يعيشون خارج البلاد، الزملاء، أطباء النفسية والعصبية في كلية الطب، تقديم المساعدة لسامح. لكن حالته كانت تتحسن ثم ترتد إلى ما هو أسوأ من الأول. ظل الطالب يعاني سنوات طويلة من اضطرابات نفسية مميتة. ويبدو أنه لم يتمكن من الإفلات مما كان جاثما على صدره سنوات طويلة. يختتم الدكتور نبيل الإهداء قائلا: «منذ عشر سنوات؛ سمعتُ أن سامح وُجدَ ميتًا في سكن الأطباء في أحد مستشفيات المنصورة».
بدأت استرجع كم شخصا في حياتي تقلبت حالتهم أمام عيني كتقلب القمر في السماء، من بدر منير إلى نصف قمر، إلى هلال. ثم يختفون تمامًا في الظلام كاختفاء القمر.. كم شخصًا يا تُرى؟ للأسف.. كثيرون جدًا!
اضطرابات الصدمة واضطرابات الشدة
اخترتُ أن أبدأ بهذا الاضطراب لأنني عاصرتُه بطريقة بدت طبيعية جدًا؛ لكن حين قرأت هذا الفصل وضعتُ يدي على جرح قديم. تمنيتُ لو كنت على علم بهذا الاضطراب من قبل.. كما أن أكثر من شخص حولي عاصره بشكل أو بآخر، وكانت للأسف كل محاولات التخفيف عنهم غير مجدية!
تحملُ المظلة الكبيرة «اضطرابات الصدمة واضطرابات الشدة» داخلها ثلاثة اضرابات. يفصل بين كل واحد والآخر خيط رفيع للغاية. هناك كرب ما بعد الصدمة، واضطراب الشدة الحاد، واضطراب التكيف. وثلاثتهم كما قلنا يصنفون في دائرة اضطرابات الصدمة والشدة.
يعرف الكتاب اضطرابات الصدمة والشدة بأنها اضطرابات تنجم عن التعرض لنوعين من الأحداث. أولها الأحداث الكارثية الصادمة. وثانيها الأحداث الأقل عنفًا ولكنها مازالت ضاغطة وتسمى طبيا «الأحداث المجهدة».
تُعرّف الأحداث الصادمة أو الكارثية على أنها الأحداث التي تهدد بالموت أو بالإيذاء الجسدي الشديد. مثل الاختطاف أو حوادث السيارات أو الطائرات أو القتل. أو التعرض للسجن أو الاغتصاب. أو معاصرة الكوارث كالزلازل أو الحروب. ليس من الضروري أن نكون نحن من تعرض لها من الممكن أن يكون شخص مقرب أو صديق أو أحد أفراد الأسرة. لكن الصدمة قد تطالك أنت.
أما الأحداث المُجهدة نفسيا فهي الأقل كارثية لكنها مازالت تشكل ضغطا نفسيا مجهدا على الإنسان. مثل فقدان شخص عزيز، أو فقدان وظيفة، أو الانتقال من سكن لآخر، أو الطلاق، وأحيانًا الضغوط المادية.
كيف تعرف أنك تعاني من اضطراب الصدمة؟
اذا كنت قد عاصرت أحد الأحداث المذكورة بالأعلى، وبدأت تسترجع الأحداث بعد انتهائها ولكنها تتجسد أمامك كما لو كانت حقيقية مرة أخرى. أو إذا كنت تستثار بصورة كبيرة جدا كلما تذكرت الحادث وتتجنب كل ما له علاقة به سواء أشخاص أو أماكن أو روائح أو صور.. فأنت بالتأكيد تعاني من اضطراب الصدمة.
يتحدث الدكتور نبيل عن مريض بعمر الـ ١٧ عاما عاصر أحداثا دامية عام ٢٠١٣ بعد عودته من درس خصوصي وشاهد تبادل إطلاق النار بين بعض الأشخاص، وسقط منهم عدد من القتلى أمام عينيه. وعلى ذلك أصيب الفتى بنوبات فزع متلاحقة، وأصبح سهل الاستثارة والخوف كلما سمع أصواتا عالية مع كوابيس متكررة. ولا يخرج من المنزل نهائيا إلا بصحبة أحد أفراد أسرته، وساءت حالته النفسية تماما حتى انتهى به المطاف على كرسي العلاج في عيادة الدكتور نبيل القط. وتم تشخيصه بمرض «كرب ما بعد الصدمة». وبدأ في رحلة علاج بمضادات الاكتئاب والقلق والعلاج الفردي والجماعي حتى عاد لحالته الطبيعية.
اضطراب الشدة و كرب ما بعد الصدمة
أحيانا قد نتعرض لأحداث خارج الخبرة العادية. خاصة الشخص العادي غير المؤهل لتلقي الصدمات أو رؤية العنف.. فالشخص العادي إذا اختبر حدثا جللا مثل إصابة جسدية عنيفة، أو تهديد بالقتل أو اعتداء جنسي أو حروب أو حرائق؛ ربما يتخطى هذه الصدمة بطريقة عادية. ولكن بعد عدة أسابيع أو شهور سترتد له الذكرى مرة أخري كأنها حقيقة تماما. فيعيش الصدمة بكل جوارحه والذكريات المميتة كأنها تتكرر أمامه مرة أخرى لهذا سُمي بـ « كرب ما بعد الصدمة».