سوشيال ناس

جامعة القاهرة.. كيف أصبحت الفكرة حقيقة منذ 112 عامًا؟

ارتبطَ النضالُ الوطني ضد الاحتلال البريطاني في بداية القرن العشرين؛ بمعارضة سياسته التعليمية. وصارت المطالبة بتعليم شعبي يواكب ثقافة المصريين ولغتهم؛ ضرورة ملحة. وقد ظهرت الدعوة لتأسيس أول جامعة في مصر منذ نهاية القرن التاسع عشر، وما كان ليحدث ذلك لولا تاريخ طويل من النضال الوطني والشعبي. والوقوف بشراسة ضد أطماع البريطانيين والعثمانيين للسيطرة على هوية الشعب المصري. ولكن كيف صار يوم 21 ديسمبر 1908م تحديدًا، عيد تأسيس أول جامعة في مصر؟

كيف سقطت أميرة في غرام أول جامعة؟

يرتبط دور الأميرة فاطمة إسماعيل؛ إحدى بنات الخديوي إسماعيل، في إنشاء جامعة القاهرة بالفكرة نفسها. منذ أن كانت مجرد فكرة في أذهان طلاب البعثات المصرية في أوروبا منذ عصر محمد علي وخلفائه. ظل حديثهم عن الجامعات الأوروبية ومبانيها الضخمة يلهم الشباب جيلًا وراء جيل. حتى صار الإيمان راسخ بأنه لا رقي ولا تحضر في دولة بلا جامعة.

شاركت الصحافة العربية والمجلات الوطنية النقاش حول دور الجامعات الأوروبية في دعم قضايا الاستقلال الوطني. ودُعي القوميون لإنشاء الجامعات من خلال الصحف والمجلات، والحرص على نشر إحصائيات عن الجامعات الأوروبية وأعدادها ونفقاتها. وصارت الفكرة أكثر شيوعًا وإلحاحًا في عصر الخديوي توفيق. لكن المصريين رأوا أن النفقات باهظة للغاية، إذا تطوع شخص واحد فقط. ولم يكن أحدٌ يعرف أن جميع الطبقات الاجتماعية ستتعاون لتحقيق الحلم المستحيل.

عندما اطلعت الأميرة فاطمة على الصعوبات التي تواجهها الجامعة المصرية من خلال طبيبها محمد علوي باشا (عضو مجلس الجامعة المصرية). أوقفت مساحة من الأراضي الزراعية وتم الاحتفاظ بعائداتها للجامعة، مما يضمن مصدر تمويل. كما تبرعت بمجوهرات ثمينة لتزويد الجامعة بأموال عاجلة.

تميزت الأميرة فاطمة بين شقيقاتها بحب العمل الخيري، والمساهمة في رعاية الثقافة والفنون والعلوم. وشاركت في وضع حجر الأساس لأول جامعة في مصر، والتي تعرف الآن بجامعة القاهرة في مقرها الحالي. لكنها توفيت قبل أن ترى الجامعة قائمة بمبانيها التي سرعان ما صارت منارة للعلم والمعرفة في مصر وشتى بلدان العالم العربي.

 

"دور

جامعة القاهرة.. الفكرة

شهد المجتمع تجربتين وقتها. الأولى قام بها أحمد باشا المنشاوي في أيامه الأخيرة، حيث أعلن رغبته في إنشاء جامعة في باسوس وأبي الغيط على نفقته الخاصة. لقد بحث مع أفضل العلماء عما تتطلبه هذه الجامعة من النفقات الأولية والنفقات السنوية وكيف يمكنهم جلب المعلمين والأدوات. شغلت الفكرة فكره في العام الأخير من حياته، وكانت موضوع حديثه ليل نهار مع الأستاذ الدكتور الشيخ محمد عبده، إلا أنه توفي قبل أن يحقق حلمه.

ومع ذلك، هذا لا يعني أن الفكرة أصبحت مستحيلة. بل على العكس من ذلك، فقد زاد عدد المؤمنين بها، وألهمت عقول المفكرين ونخبة المثقفين والسياسيين الذين تنافسوا، برغبة حقيقية، في كتابة في صفحات الجريدة الوطنية لحث الناس على التعاون في هذا الأمر العظيم، مشددًا أن تأسيسها من خلال أموال الأفراد سواء كانوا أغنياء أو فقراء سيؤدي إلى نهوض الأمة.

أحمد باشا المنشاوي
أحمد باشا المنشاوي

لقيت الفكرة طلبًا كبيرًا بين الناس، وخاصة بين النخبة الاجتماعية. وقرب نهاية عام 1906 كتبت المجلات عن اشتراك مصطفى بك الغمراوي، أحد وجهاء بني سويف، بمبلغ 500 جنيه مصري بالجامعة المصرية. وتبعه العديد من الشخصيات البارزة في الصحف المختلفة. في ذلك الوقت ظهر المشروع بشكل عفوي. وطالب عدد كبير ممن حرصوا على تحقيق هذه الفكرة بتكوين جمعيات لتلقّي العروض والترويج لها بشكل منتظم. وبدا أن بعض الصحف نسبت إلى بعض القرابين الثرية الكاذبة، على أمل أن يحرجوها، فيحققوا الأمل بقوة العار. إلا أن البناء لم يكن على أساس متين، فتداعى، كما كذب بعضهم، وكان آخرون صادقين.

اجتهد منظمو الفكرة في إزالة العوائق التي قد تحول دون استمرار المشروع وتحقيقه. فطلبوا من المشتركين الذين ظهرت أسماؤهم في الصحف ومن غيرهم ممن يحرصون على انجاز المشروع أن يحضروا اجتماعات في دار “المؤيد” لبحث المشروع وعقد اتفاقيات تنقذه من السقوط. لكن البعض خشي أن يسقط هذا المشروع دون تحقيق ما هو مقصود منه، فاقترحوا عقد لقاء في مكان آخر لم يكن لصاحبه طابع سياسي. واستقر رأيهم في عقد اللقاء في منزل سعد زغلول. في هذه الأثناء كان زغلول محامياً في محكمة الاستئناف المدنية. وهكذا وجهوا دعوات للاجتماع في الصحف، وحددوا يوم 24 شعبان 1324، 12 أكتوبر 1906.

الامام محمد عبده
الامام محمد عبده

تأسيس جامعة القاهرة

عُقد اللقاء في منزل سعد زغلول، وأيد الحضور ما قدموه للجامعة، واتفقوا على عدة قرارات. انتخاب اللجنة التحضيرية التي كان فيها سعد زغلول نائباً لرئيس اللجنة وكان قاسم أمين أمين الهيئة فيها. تم تعيين حسن سعيد سكرتيرَ الصندوق. واقترح تأجيل انتخاب رئيس الجامعة للجلسة القادمة. واستقروا على تسميتها: «الجامعة المصرية». وهكذا تمت دعوة المساهمين للمشاركة في هذه المؤسسة الوليدة في جميع الصحف المحلية العربية والأجنبية. وبعد الاجتماع بلغ إجمالي العروض المُقدمة حوالي 4485 جنيهاً مصرياً.

حرصاً على تنفيذ الفكرة، وخوفاً من تلقي أي هجوم من قبل سلطات الاحتلال أو الحكومة، نص منشور الدعوة للمشروع في جميع الصحف على أن الجامعة ليس لها طابع سياسي وليس لها علاقة مع رجال السياسة، أو العمال، والسياسة ليست مدرجة في الإدارة، ولا في الدروس، بأي شكل من الأشكال. الهدف من إنشاء الجامعة ليس سوى أن تكون مدرسة لتعليم العلوم والآداب لكل طالب مهما كان العرق والدين.

كان لهذا النداء الذي وجهته الأمة المصرية تأثير كبير على المجتمعات والبيئات، وتردد صداها في كل نفس، ووصلت الرسائل الداعمة إلى الصحف. سرعان ما تدفقت التبرعات من الأيدي السخية على التوالي، وكشفت عن همة كبيرة وإرادة مذهلة.

سعد باشا زغلول
سعد باشا زغلول

دعوة للاشتراك العام

ساهم الجميع في إنشاء جامعة القاهرة، بداية من النخبة والعلماء والمشايخ. ثم بدأ أمراء العائلة المالكة متابعة المشروع من خلال الرعاية المالية والجهود المبذولة لتسهيل إنشاء هذه المنظمة. كان الأمير سعيد باشا أول من اهتم بهذا الأمر. وتولى رئاسة “لجنة الأمراء” وتقاضى عنها 8000 جنيه. طلبت صحيفة “المؤيد” من الأمير سعيد باشا تنفيذ وعده الذي أصدره في باريس بمتابعة الأعمال حتى النهاية.

وتم تشكيل لجنتين؛ أحدهما كان تقنيًا لإقامة نظام الجامعة وكل ما يلزم للعملية التعليمية فيه، والآخر مخصص لجميع الاشتراكات من المتبرعين. وفي الاجتماع الثاني بتاريخ 30/11/1906 أعلنوا ضرورة انتخاب عدة لجان ثانوية للاكتتاب وجمع التبرعات من جميع المصريين في كل مكان بالدولة المصرية منذ الحكومة حتى عندما كانت راضية عن المشروع وتحصيله. المبادئ، لا يزال يرى أنه كان سابق لأوانه وباهظة.

وهكذا رأوا أنه لا بد من الاتكال على أنفسهم بعد الله، وعدم تعليق آمالهم على المساعدات الخارجية. قرر جميع أعضاء اللجنة إسناد رئاسة المشروع إلى أمير يثق ويوافق الجميع على ضمان انتظام الإجراءات المتخذة للمشروع. كما قرروا إيداع الأموال المحصلة في بنك ألمانيا الشرقية، على وجه التحديد، لأنه البنك الوحيد الذي ساعد الجامعة بإعطائه ميزة 4٪ سنويًا، مما ساعده على زيادة 1.5٪ سنويًا، ومبلغ الاشتراك أربعين جنيهًا سنويًا، بحيث تستفيد الجامعة بنسبة 5.5٪ ، في حين أن جميع البنوك الأخرى قدمت مزايا أقل، ولم تقبل استرداد جميع المبالغ في أي وقت مطلوب للمشروع، بينما قبلها بنك ألمانيا الشرقية. وبلغ إجمالي مبلغ الاكتتاب 16.536 جنيهاً في الاجتماع الثاني.

النخبة السياسية التي كانت مهتمة بمشروع الجامعة كانت مدركة تماماً لأهمية المخاوف التي أثارتها الصحف الأجنبية الناطقة بلسان سلطات الاحتلال والتي ادعت فيها أن مشروع الجامعة لم يكن إلا لأغراض سياسية، وأن “الجامعة الإسلامية” هي التي نشأت ضد الاحتلال. لهذا أعلن سعد زغلول عندما أصبح وزيرا للتربية تنحيه عن منصب نائب الرئيس، وانتخبت اللجنة قاسم أمين أميناً له بدلاً منه.

قاسم أمين
قاسم أمين

رعاية الأمراء للمشروع

وعقد الاجتماع الثالث في 19/1/1907 حيث أعلن قاسم أمين أن الخديوي تكرم برعاية اللجنة وجعل نجله رئيساً فخرياً لها. كتب قاسم أمين للأمير “أحمد فؤاد باشا” يتقدم له الرئاسة، وكان نص الرسالة كالتالي:

الأمير “أحمد فؤاد باشا” عندما عرضنا أمس أمام أعضاء لجنة إدارة الجامعة، ما قدمته بلادكم من اهتمام بقضية الجامعة واستعدادكم لتعزيز مشروعها، اجتمعوا بأطروحاتهم بكل سرور، وكانوا على ثقة من أن النصر بالقرب، وقرروا إرسال وفد لتقديم الشكر لبلدك. وهم محمد علوي باشا ويوسف صديق باشا وحفني ناصف بك وحسن سعيد بك. إذا قبلها كرمك، من فضلك أخبرني باليوم والساعة اللذين ستحددهما لذلك، وأرجو أن تقبل احترامي.

الأمير أحمد فؤاد باشا
الأمير أحمد فؤاد باشا

الأمير فؤاد رئيسًا للجامعة

اجتمعت الجمعية العمومية برئاسة قاسم أمين يوم الجمعة 31 يناير 1908 وأعلنت في هذا الاجتماع قبول الأمير أحمد فؤاد للرئاسة. كما اجتمعت اللجنة مع رئيسها الجديد لأول مرة بسراي الأمير أحمد فؤاد باشا بتاريخ 12/3/1908. تفاوضوا في البحث عن الوسائل التي من شأنها أن تقودهم إلى تحقيق المشروع. وتم البدء فعليًا في خطوات جادة لضمان استمرارية تقدم المشروع. حيث اتفقوا على أن المهمة الأولى التي يجب أن تبدأ بها هي: التعليم.

وهكذا استغرقت الفكرة وقتًا طويلاً حتى تم تنفيذها، وكانت شائعة بين جميع البيئات، وكان لها تأثير كبير في كل روح مصرية. دعمها القطاعان العام والخاص، وتدفقت التبرعات من المصريين الأغنياء. منح الخديوي عباس حلمي الثاني المشروع 5000 جنيه سنويا مما جعل المشروع يسير بخطى أسرع.

كما بدأت عملية إرسال البعثات، وتم وضع البرامج، واستدعاء المعلمين، ثم قبلت الحكومة المصرية الجامعة كأحد منشآت المرافق العامة. ولم يتبق سوى الأمة المصرية للاحتفال بافتتاح هذا الصرح الجليل الذي سيعرف فيما بعد بـ جامعة القاهرة.

افتتاح جامعة القاهرة

اجتمع مجلس الجامعة في اجتماعه التاريخي بتاريخ 5/12/1908 لبحث موضوع افتتاح الجامعة، وهنا قرر رئيس الجامعة “الأمير أحمد فؤاد” أن يسعى إلى خديوي مصر ليعرض عليه موضوع افتتاح الجامعة.

وافق الخديوي على التنصيب ووافق على الحضور وإلقاء كلمة. أقيم حفل الافتتاح بمقر الجمعية الاستشارية للقوانين صباح يوم 21/12/1908. وحضر الحفل جميع رجال الدولة وأعيانها ورجال الدبلوماسية الذين تبرعوا للجامعة، وكذلك أعضاء الجمعيات العلمية في مصر.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى