حكايا ناس

الحج حمام.. راهب في حب السما والطير

الحج حمام.. راهب في عشق السما والطير

«طاير يا حمام مرسال الغرام.. تهدى الشوق لخلّي، وتجيب لي السلام.. طاير يا حمام».. هذه الكلمات الرقيقة التي امتزجت بألحان عبقرية في صوت نجاة الصغيرة، أول ما يتبادر إلى الأذهان عند رؤية أسراب الحمام تخفق بأجنحتها وتعلو بين ألوان السماء.

ما يميز «الحمام» أنه ليس طائرا مستوحشا يغيب في الأفق ولا يعود.. إنما هو أليف يعود لأصحابه.. إنه الرمز الذي توافقت عليه البشرية للسلام.. منذ أن أرسله نوح، محملا ببركات نبي من وسط بحر لجي، ليعرف هل توقف الماء على الانبثاق أم لا؟.. وحين عاد بغصن الزيتون، ومنذ ذلك العهد، توافقت البشرية على اعتباره رمزا للسلام ولكل شيء طاهر نقي، أبيض كجناحيه، رسولا للحب والمحبين.

الحج حمام

الحاج حمام

ومن بين المحبين يظهر «الحاج حمام».. وهو الرجل السبعيني المعلق قلبه بهذه الطيور.. فهو يعشقهم كأولاده وأحفاده.. رؤيتهم في السماء تشعره بالحرية، يعرف ما يسعدهم وما يعكر صفوهم.

حبه لتربية الحمام لم يتغير رغم تغير السنين.. فمازال كما هو في ماض يهرب فيه من والده بحثا عنهم في الأسواق وفي السماء وفي حديث الـ«غاوين».

عمدة الغاوين

ابتسامة «الحج حمام» لا تفارقه أبدا.. فخلف نظارته عينان تسكنهما أُلفة كأنك تعرفه من قبل، يوزع نظراته على طيوره هنا وهناك، وهو عمدة «الغاوين» ليس بـ«البرج العالي» الذي شيده لطيوره فقط ولكن بقلبه الكبير.

لم يمنع «الحاج محمد» صاحب السبعين عامًا، والذي قضى عمره في مهنة النجار المسلح، بين صب أسمنت، ورمل، وطرق مسامير وألواح خشبية، أن يحتفظ بشغفه وعشقه للحمام، حتى صار هو نفسه اسمه «الحاج الحمام» وذاعت شهرته بين القاصي والداني من محبي تربية الحمام.

داخل منطقة إمبابة في محافظة الجيزة، يسكن «الحاج الحمام» في الطابق الأول بعمارته.. اعتاد صعود 5 أدوار كل يوم مرتين، بالإضافة إلى 5 مثلهم لـ«غيته» الشهيرة، التي لا يحتاج المارة جهدا كبيرا لرؤيتها.. فهي تقف شاهقة مرتفعة، لتعكس منذ الوهلة الأولى مدى عشق صاحبها للحمام أو كنزه كما يسميه هو.


همّة الشباب

في السابعة صباح كل يوم يصعد «الحاج حمام» بهمة الشباب وبشغف المحبين إلى «غيته» مرتديًا «ملابس الشغل» كما يصفها، لكي يقدم الطعام، والعلاج، والرعاية، إلى ما يقرب من 200 فرد حمام، يعرف أسمائهم كأنه يقدم لك أفراد عائلته، ويعرف طباعهم، وما يلزمهم، في ترحيب كبير يبدأ بسردهم واحد تلو الآخر هذا «شقلبظيات» وتلك «صافي» وهناك «مسودة وأبله»، فحديثه عن الحمام وأسراره لا ينتهي.

أسواق الطيور

دفع عشق «الحاج محمد» لتربية الطيور إلى هجر الدراسة عند الصف الرابع الابتدائي، والاتجاه إلى أسواق بيع الطيور.
وبابتسامة هادئة يقول: «منفعتش في التعليم.. كنت تاعب أبويا بسبب حبي للحمام وكان بيجري ورايا عشان أنفع في المدرسة»، لافتًا إلى أنه في عمر الحادية عشر لم يترك سوقا للحمام أو تجمعَا لمحبي الحمام أو «الغاوين» إلا وذهب إليه، ما بين سوق الجمعة، وأبو الريش، وسوق إمبابة وغيرها.


الحمام والسلام

وللحاج حمام فسلفته الخاصة، فهو يرفع شعار «الحمام والسلام»، وبنبرة واثقة يؤكد أنه عقد صلحًا بينه وبين مربيين الحمام المجاورين له، حيث يتم تبادل الحمام في صورة تشبه إلى حد كبير تبادل الأسرى، الحمام الذي يمسكه في «غيته» يسلمه إلى صاحبه والعكس صحيح.

ولجأ الحاج حمام إلى حيلة لكي يحافظ على طيوره، حيث وضع في رجل كل حمامة «دبلة» منقوش عليها اسمه ورقم هاتفه، حتى يسهل على المجاورين الاتصال به، لإعادة الطير الشارد إليه مرة أخرى، أما هو فيقول إنه يبقي الحمام الغريب في «غيته» لمدة شهر فإذا لم يعثر له على صاحب يبيعه في السوق ثم يضع ثمنه الذي قبضه في صندوق المسجد.

ارتفاع شاهق

ولم تكن تلك «الغية» هى الأولى للحاج حمام فرحلته الأولى بدأت منذ إقامته في حي روض الفرج، قبل أن ينتقل إلى منطقة إمبابة، ليبني أكبر برج حمام في الجيزة – كما يصفها- بارتفاع يصل إلى أحد عشر مترًا، لافتا إلى أن غيته كانت دائما ما يقع عليها اختيار الفنانين الذين يصورون فيها بعض المشاهد في أعمالهم الفنية.

ورثة حمام

وبخيبة أمل قال الحاج الحمام، إن أولاده وأحفاده لم يرثوا منه عشقه لتربية الحمام، حيث لم يجد في أحدًا منهم هواية تربية الحمام، لكن بعض الأطفال من أبناء الجيران يساعدونه في تربية الحمام ويتعلمون منه أسرار الحمام عن طريقة المراقبة والمشاهدة، كما يراقب التلميذ أستاذه.

وبعصا خشبية وعلم باللون الأحمر، ويده في فمه يصفر لطيوره، يختتم الحاج حمام يومه في «غيته» بـ«نش الحمام» والتلويح له ومراقبته وهو يفترش السماء يرقص في مجموعات، يفرد أجنحته، يرفرف كما يرفرف قلب الحاج حمام في كل مرة يصعد إلى غيته في رحلة يومية حتى غروب الشمس.

Share on facebook
Share on twitter
Share on linkedin
Share on whatsapp
Share on email

وراء كل حجر:

اقرأ أيضا:

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى