يوسف إدريس يُحاور دورينمات في سويسرا والقاهرة
«رُحت أتأمل هذا الرجل الذي بدا لي شيخًا صغيرًا طيبًا، فيه من ملامح الطفولة أكثر مما فيه من ملامح الشيوخ. هذا هو «دورينمات» إذًا الذي خلبَت أفكاره لبِّي، وجعلتني أتساءل عن كنه ذلك الكاتب المسرحي الذي يَخترع تلك الأفكار».
بهذه الكلمات عبّر يوسف إدريس في جريدة الأهرام، عن نشوته بلقاء الكاتب المسرحي السويسري الشهير فريدريتش دورينمات، أثناء زيارته إلى سويسرا في منتصف الثمانينيات، كان اللقاء حميميًا، وتم ببساطة وغير تكلف، فبمجرد ما استطاع إدريس الحصول على رقم هاتفه اتصل به وقال له جملتين قصيرتين، أنا كاتب مصري، أريد لقاءك، فرد الألمانية ولم يفهم إدريس شيئًا فناول السماعة لمرافقه الذي ترجم بالإنجليزية: إن مستر «دورينمات» يُرحِّب بلقائك يوم الثلاثاء القادم في منزله بنيوشاتل، وهو يترك لك حرية اللقاء، إما لتناول الغداء ١٢ ظهرًا، أو مشروب في الثالثة بعد الظهر، فما رأيك؟
يوسف إدريس في بيت دورينمات
تثير وحدة دورينمات بعد وفاة زوجته التي كان يعبدها وميله إلى الانعزال الكثير من الأساطير حول غروره وعجرفته، فالبعض يقول إنه تزوج بأخرى وهو عجوز هكذا. وآخرون يؤكدون إن وزنه قد زاد كثيرًا، بسبب مرض السكري وصار قليل الحركة جِدًّا. أخبار محزنة على طول الخط، لكن إدريس اكتشف تهافت هذه الأساطير مع طبيعة الرجل المائلة إلى التواضع والود عند لقائه في منزله في نيو شاتيل، الرجل في تمام صحته، قصير القامة، في الخامسة والستين يبدو نشط الحركة، ليس سمينًا أو زائد الوزن كما قالوا، ولا يَمشي على عكَّاز، وبمجرد ما تحادثه عن الأدب والمسرح يصبح أكثر شبابًا وحيوية مما يثيره منظره الضارب في الهرم، ما جعل “إدريس” يصرح برغبته في استضافته في القاهرة للقاء الأدباء والمثقفين المصريين، حينها اندهش دورينمات من هذه البساطة التي يأخذ بها “إدريس” الأمور، وقال له: حقًا؟!
لقد جمع المسرح بين الكاتبين، ورغم أن دورينمات له إصدارات روائية عميقة الأثر، إلا أن إدريس عندما زاره في منزله في سويسرا، قدم نفسه له ككاتب مسرحي، فالظروف التي تعرض لها الكاتبان متشابهة بشكل أو بآخر، فكلاهما له ميول اشتراكية، وتخبط كلاهما بين المسرح والقصة سنوات طويلة، وعانى كلاهما مرارة الحرب التي استنزفت شعب كل منهما ثقافيا وماديا وحضاريًا. ورغم أن سويسرا لم تشارك في الحرب بشكل مباشر، فقد حصنها موقعها عن التضرر بالأحداث، إلا أن دورينمات رأى أن هذه الحصانة بمثابة سجن يتحلل فيه الإنسان دون أن يراه أحد.
اقرأ أيضًا: محيي الدين بن عربي.. فيلسوف الإسلام أم خارج على الملة؟
تطل حجرة دورينمات عبر حائط زجاجي على بحيرة نيوشاتل في حضن الجبل، حيث يلف المنزل هدوء شديد، جعل إدريس يسرح بخياله مع أثر هذا المكان على كتابات الرجل، وراح يحدثه عن نظرة النقاد إلى مسرح دورينمات وكيف أنه يقولون إنه جعل الشخصيات تخضع للصدفة بدلًا من خضوعهم للقدر كما في المسرح الإغريقي القديم، ما جعل مسرحيات دورينمات مُحرضة على التفكير العقلاني وزاخرة في أحيان كثيرة بموجات من العبثية واللامعقول. حينها ابتسم دورينمات وهو ينتظر أن ينهي إدريس كلامه، ثم سأله في نظرة ذات مغزى: وما رأيك أنت؟
كان فريدريتش دورينمات ينظر إلى المصير البائس الذي آل إليه إنسان القرن العشرين بنصف شفقة ونصف ابتسامة، يعزوه شعور عام بالسخرية من كل شيء، وقد حرص في أعماله على مناقشة أسباب شقاء الإنسان والإشارة إلى القيود التي تكبله مثل الأعراف والتقاليد والسلطة الغاشمة والرأسمالية المستغلة بنظرة هزلية أحيانًا، ما جعل النقاد يحرصون على ضمه إلى الطليعة الجديدة التي عُرف مسرحها بـ اللامعقول أو العبث.
وقد عارض العقاد المدرسة الوليدة منذ بزوغ نجمها في المسرح الفرنسي، وما هي إلا سنوات حتى أصدر توفيق الحكيم مسرحيته الرائدة يا طالع الشجرة، ليتلقفه طه حسين باستهزاء قائلًا: إنه لم يأتِ بشيء جديدٍ. لكن “الحكيم” فتح بابًا للأدباء المصريين والعرب كي يمهلوا أنفسهم برهة لتأمل أشكال جديدة في التعبير عن أفكارهم.
لكن يوسف إدريس كان يرى شيئًا آخر، ولم يستغرق منه الأمر وهو في حضرة فريديرتش دورينمات سوى دقيقة واحدة ليرتب أفكاره ويقول:
«إنك كمسرحي، خالق لما أُسمِّيه الأسطورة الحديثة؛ فالواقع كما هو أنت تعرف وأنا أعرف لا يَصلُح بذاته كمادة مسرحية، لا بد من حيلة مسرحية يلجأ إليها كاتب المسرح ليجعل هذا الواقع إمَّا أن ينقلب رأسًا على عقب وإمَّا أن يَعتدِل إذا كان مقلوبًا لنستطيع أن نراه في ضوء جديد تمامًا وبرؤيا جديدة تمامًا؛ فمثلًا في مسرحية «زيارة السيدة العجوز» أنت تريد أن تتحدَّث عما يُحدِثه العامل المادي في النفوس البشرية وكيف يتسلَّط عليها ويغيرها، غيرك كان يلجأ لعرض هذا الموضوع في قالب درامي مهما بلغت درجة إتقانه فسوف يكون مباشرًا، أنت اخترعت قصة السيدة التي غادرت القرية منبوذة من حبيبها والتي عادت إليها بعد أن أصبحت غنية جِدًّا ورصدت مليون دولار لمن يَقتُل لها حبيبها السابق. هذه «الاختراعة» المسرحية جعلتْنا نرى الموضوع بطريقة مسرحية مُثلى، وجعلتنا نراه وكأننا لم نرَهُ من قبل، مع أننا نراه كل يوم. أردتُ لقاءك إذن ومناقشتك لأننا في العالم العربي نُعاني ككُتَّابِ مسرح (وأنا منهم) لخلق هذه الاختراعات المسرحية المصرية والعربية الحديثة لنرى واقعنا وواقع العالم اليومي على ضوئها».
دورينمات في القاهرة
بعد شهور من لقاء يوسف إدريس مع فريدريتش دورينمات في منزله في سويسرا، أخذت الترتيبات اللازمة لزيارته إلى القاهرة؛ في الاكتمال، وكان قد مرّ وقتٌ طويلٌ لم تستقبل فيه القاهرة كاتبًا عالميًا ذائع الصيت منذ زيارة سارتر وسيمون دي بيفوار في عهد جمال عبد الناصر.
وفي 27 نوفمبر 1987م، استقبل فندق شيراتون الجزيرة الأديب السويسري الكبير في ندوة أدارها الدكتور ممدوح البلتاجي، وشارك فيها الدكتور مصطفى ماهر، والدكتور لويس عوض، والدكتور يوسف إدريس.
وعندما سُئل دورينمات عن تصوراته حول الأدب العربي وإذا كان قد قرأ شيئًا منه، أجاب بحدة: لا. وقد أثار دورينمات من قبل موجة من الغضب في أوروبا بسبب تصريحاته الإعلامية بأنه لا يقرأ شيئًا للأدباء المُعاصرين، وإذا بدأ يقرأ شيئًا غلبه النعاس فهم لا يكتبون إلا أشياء تخصهم.
افتتح الدكتور مصطفى ماهر كلمته مُحاولا تقريب المسافة بين فكر دورينمات الذي يختلف كثيرًا مع بعض بديهيات الثقافة العربية، وبتأمل مسرحيات دورينمات سنجد أن البشر فيهم كل الشر، ليست فقط السيدة العجوز، بل وأهل القرية أيضًا، ما يجعل الإنسان أحيانًا يحس بأن هناك في قرارة نفس دورينمات إحساسًا عميقًا بالخطيئة الأولى، بالرغم من أن المذكرات الأخيرة توضح كم هو متحرر من المقولات الدينية.. هذا هو الامتداد التراجيدي الطبيعي للمواقف التي صورها دورينمات في مسرحياته، والمدهش أنه استطاع أن يخفي كل هذا اليأس وراء طوفان من الدعابة المصفاة قد تصل إلى (الفارس Farce) أحيانًا.. وتساءل الدكتور لويس عوض: هل أنا على حق في تصوري لوجود يأس من الإنسان ومستقبله في مسرحياتك؟!
أطرق دورينمات قليلًا ثم أجاب في هدوء شديد: «أنا لا أعتقد أنني إنسان يائس.. ولكن الإنسان إذا ما تعمق في العلوم سيدرك أنه أعظم كائن، ولو لم تكن للمخ البشري القدرة على تحويل جزء صغير من الطيف إلى ضوء ولون؛ لكنا الآن في ظلام دامس.. إنما المشكلة بالنسبة لي تكمن فيما فعله الإنسان بنفسه. لقد أتيحت للإنسان فرصة هائلة للعيش في الدنيا.. ومن الممكن أن نسمي هذه منّة إلهية. ولو كانت الأرض أصغر حجما لما أحاط بها الهواء، ولضاعت في الفضاء، ولو كانت أقرب للشمس لاحترق كل شيء عليها، ونحن لا نستطيع أن نؤكد بما فيه الكفاية أننا كلما زاد سعينا لفهم الطبيعة، زادت الدنيا إعجازًا في نظرنا.. والمخ البشري فيه عدد لا يحصى من خلايا التفكير، ولكن ماذا فعل بها الإنسان؟ ونحن بين أمرين إما أن نعتبر كل ذلك مجرد كوميديا.. أو نغرق في اليأس».
اقرأ أيضًا: واقع دراسة الأدب في مصر.. هل يهبط الكاتب من السماء؟
رغم إعجاب يوسف إدريس بدورينمات الذي سكنه شبحه في كثير من الكتابات، إلا إنه كان طوال الوقت يُفكر في مَنطَقَة فِكر الرجل الذي تَعِبَ كثيرًا في هذه الندوة أن يشرحَ ويبرهن بأنَّ العبثَ ضدَّ المنطقِ من الأساس ولذلك لا يجب أن تبحثوا فيه عن أي منطق أو قانون أو نظام. لكن إدريس أعاد السؤال بطريقة أخرى قائلًا: أنا أريدُ أن أسألَ الأستاذَ دورينمات هل هو فعلا يعتقد أن هذا كله صدفة وعبث وأن حضورنا هنا مثلا وحضوره في القاهرة صدفة وعبث أم أن هناك قانونا آخر للكون؟
عندما عادت الكلمة لدورينمات قال: «هذه الأسئلة التي توجه إليّ أسئلة صعبة.. فأنا لا أعتقد أن الدنيا لا معقولة.. ولكنني أعتقد أن في هذه الدنيا شيئا موجودًا هو ما نسميه المُصادفة.. ولكن عندما نتكلم عن المصادفة يحدث سوء فهم، أما الشيء الذي أسميه مصادفة والذي نتعرض نحن له فقد أسميته دائمًا عطلا أو حادثة من قبيل حوادث السيارات.. ونحن نؤمن بأمان الآلات ونعتقد أن الآلات تعمل بأمان تام وأنها لا تخطئ على الإطلاق على الرغم من أنها قد تكون مليئة بالأخطاء والعيوب التي لم يدركها أحد عند صناعاتها، ونحن نعيش في عالم كل عملية تخطيط فيه غير أكيدة نحن نلعبُ بالنار حينما ننتج المزيد من الأسلحة مثلا.. والمعنى أننا نعيش في عالم كأنه مصنع بارود لم يحظر فيه التدخين.. من الممكن أن نسمي هذا العالم لا معقولا.. ولكن الإنسان هو الذي صنع هذه اللامعقولية».
ولقد اعتبر بعض المثقفين العرب أن هذه النزعة العبثية دخيلة على حضارتنا، ولا يمكن أن تؤدي إلى أدب رفيع جيد، لكن تصدى لهذه الآراء عددٌ ليس قليلا من الأدباء منهم صلاح عبد الصبور وعبد الرحمن بدوي وتوفيق الحكيم وغيرهم. ومنذ أن ترجم الدكتور مصطفى ماهر مسرحية «زيارة السيدة العجوز» إلى العربية في ستينيات القرن الماضي، وعرضها على مسرح الأوبرا من إخراج سمير العصفوري وبطولة عدد من النجوم على رأسهم صلاح منصور وعبد الله غيث وزوزو نبيل؛ وأثَر دورينمات يستشري في الدماء الأدبية المصرية، وقد أشار الدكتور محمد عبد السلام يوسف في دراسة مُفصلة في مجلة إبداع 1990م، إلى روح دورينمات المسيطرة على محمود دياب وهو يكتب مسرحية الزوبعة.
وربما يرجع أكبر الأثر في تأثر الكتاب المصريين بدورينمات في بساطة ودون كلف؛ أنهم وجدوا ما يمسهم ويعبر عن انكساراتهم في النزعة الهزلية التي تصاحب العبث في مسرحياته، فهو ينظر لكل شيء على أنه بلا جدوى، والحياة عنده لعبة لا أكثر، لا فائز فيها ولا مهزوم، ولذلك يغيب في مسرح دورينمات مفهوم البطل، وكذلك النظرة المنمَّقة للعالم المُتحضر، بل هناك حرص على إعادة عرض الحقائق بنظرة نسبية للقوانين الأخلاقية المطلقة، وهكذا ينظُر إلى الرأسمالية والبيروقراطية في المجتمع الحديث كأحد أشكال العبودية المُنمقة. إنه رجل يفكر ويدعو الآخرين إلى التفكير، ويطالب بأن يعتمد الإنسانُ على عقله وألا يسير مندفعا بقوة مجهولة إلى الهلاك، فالحياة جميلة، والإنسان عظيم، ولا ينبغي أن نبدد المنة الإلهية. وهكذا جاءت شخصياته أسرى عجزهم، وحوارهم لا يدور في حقيقته إلا حول العجز عن الحياة والعمل، أي حول السَّأَم والملل. وهذا التأثُّر لم ينكره يوسف إدريس في أكثر قصصه، وخصوصًا مجموعته الأخيرة «العتب على النظر»، والتي أصدرها بعد زيارة دورينمات بشهور قليلة، حيث لا يخفى من القراءة الأولى أثر مسرحية «مُحاكمة حول ظل الحمار» على شخصيات القصص التي تسخر من كل شيء، رغم أنها تتعامل في نفس الوقت مع كل شيء بكل جدية.