«اختفاء أمي».. لحظة ندرك خلالها رعب المستقبل
ترى ما هي اللحظة العصيبة التي قد تدفعنا للتفكير في الهروب من الحياة بدلا من مواجهتها؟ أنا شخصيًا فكرتُ كثيرًا في إغلاق كل وسائل التواصل الإلكتروني، وإلقاء هاتفي في النهر، والهرب بعيدًا عن أي التزام ولو ضمني. لعلي بذلك أحقق ما يُعرف بالرضا الزاهد. ولكننا في ظل ظروف الحظر الجبري نجد أنفسنا مدفوعين للتقوقع داخل أنفسنا رغمًا عنا، فهل تقبّل الوضع أمرٌ بهذه البساطة؟
عارضة أزياء إيطالية تختبئ من العالم في شقتها
أصيبت عارضة الأزياء الإيطالية بينديتا بارزيني، بخيبة أمل من فكرة استحالة ديمومة الجمال. وصارت تتأمل صورها مع تقدمها في السن عامًا تلو عام. وهي الآن على مشارف السبعين؛ تشعرُ بغضب عارم لا يمكن تخفيفه إلا بشيء واحد وهو: الانفصال التام عن العالم المادي. هكذا حدثت نفسها، وفكرت أن تختبئ في شقتها المليئة بالمخلفات في مدينة «ميلانو». وأن تدخن بشكل قهري مستمر، كما تقول: «أريد أن أختفي ولا أعود أبدًا». هذه الرغبة الشديدة في الاختفاء عن العالم، هي موضوع الفيلم الوثائقي «اختفاء أمي». الذي يقدمه المخرج الإيطالي بنيامينو باريزي، عن والدته عارضة الأزياء الشهيرة بينديتا بارزيني.
اشتهرت بينديتا بارزيني، بنظرتها الماكرة، وملامحها الأقرب للشبه من إليزابيث تايلور في دور كيلوباترا. وكذلك مشيتها المميزة على المسرح، والتي أصبحت élite/ تقليدًا بعد ذلك في عالم الموضة.
كانت عارضة الأزياء الإيطالية بينديتا بارزيني تخطر على المسرح قبل خمسين عامًا بثقة وتحدٍ كبيرين. فقد ولدت بثروة كبيرة، وبدأت رحلتها في عالم الأزياء والموضة وهي في سن المراهقة. وفي ستينيات القرن الماضي، صارت أول إيطالية تظهر على غلاف مجلة «Fouge» الأمريكية.
عملت «بارزيني» مع مصنع آندي وارهول. وظهرت بانتظام في لقطات المصورين الأمريكيين الشهيرين: ريتشارد أفيدون، وإيرفينغ بين. ومع ذلك كانت تعلم طوال الوقت أن شبابها، وقيمتها المهنية، كانا يسيران نحو الزوال.
كيف تحققت نبوءة «اختفاء أمي»؟
حاول بنيامينو باريزي طوال حياته؛ الهروبَ من ظل والدته، فرغم إنها مصدر إلهامه، إلا أن تأثير جاذبيتها عليه، صار من المستحيل تجاهله. وكما هو الحال مع العديد من صانعي الأفلام ورواة القصص، لا يمكنهم أن ينكروا تأثير الجزء العائلي على حياتهم الفنية. فمثلًا سارة بولي وجاكوب بيرنشتاين، قدما أفلامًا وثائقية ممتازة عن عائلتيهما. وهكذا بدأ بنيامينو باريزي في عام 2014 تصوير والدته. منذ أصبحت رغبتها في الاختفاء حقيقة واضحة، وهي في فصلها الدراسي في معهد البوليتكنيك في ميلانو.
واستطاع الابن تقديم صورة رشيقة لعلاقة امرأة عجوز بشخصيتها والمجتمع ككل. فـ «بارزيني» لديها موقف حاد من العالم، فهي ترفض الظهور في وسائل الإعلام. ولا تفضل البذخ في نزهات الشراء. وصارت تمقت أدوات التجميل، والكلمات الودودة، وصار أقل ما يمكن وصفها به أنها بخيلة حتى في عواطفها. يرصد الفيلم كل هذه التغيرات الدقيقة، من خلال صراع واحد مُستغل بعناية، وهو كره الأم للتصوير عامة. وهذا العداء هو الصراع المركزي في الفيلم الوثائقي. حيث يدور جزء كبير من الفيلم حول مقاومة «بارزيني» لإنتاجه. ونشاهدها كيف تتجول في غضب في شقتها بينما يصورها ابنها. وكيف تخبره في حزم: «اذهب بعيدًا. تبا لنفسك»، عندما تكتشف أنه كان يصورها سرا بينما هي مستلقية على السرير. وبطبيعة الحال ، يوجد تحت كل هذا الصراع مفارقة مؤلمة: كلما تراجعت «بارزيني» عن الحياة التقليدية، أصبحت أكثر تحولًا إلى صورة أكثر عدائية وبؤسًا.
في فبراير؛ عندما ظهر الفيلم على منصات البث المباشر عبر الإنترنت. بدت «بارزيني» غريبة الأطوار، وعنيدة. وبعد أن انقض فيروس كورونا بلا رحمة على المسنين في روما. اكتسبت رغبتها في الاختفاء أهمية جديدة. وفي أكثر المشاهد المربكة للفيلم، تعاني بينديتا بارزيني من مشاكل صحية، وتستمر في حالة سعال حتى المشهد الذي تناقش فيه المواعيد الأخيرة للأطباء بسبب العدوى.
لقد استهدف الوباء العديد من أقران «بارزيني»، وأدت عمليات الإغلاق الصارمة المفروضة في إيطاليا وأماكن أخرى إلى اختفاء مليارات الأشخاص. تُرى كيف أثر الحجر الصحي على بارزيني؟ إنها شخص معرض للخطر وتعيش في إحدى بؤر المرض. ومع ذلك فإن الأوقات تتماشى بشكل مخيف مع تخيلاتها، ما أدى إلى خلق عالم خالٍ من التجارة أو المناسبات الاجتماعية أو التفاعل البشري. وبصيغة أخرى: هل ساهم الإغلاق الجبري في تخفيف انتشار الفيروس، أم ساهم في انتشار مشاعر الهلع والانقباض؟
تمكن الابن من الوصول إلى والدته في صباح أحد الأيام. بعد أن وصلت حصيلة ضحايا كورونا إلى ذروتها. ففي المرة الأخيرة التي رأوا بعضهما فيها، كانت الشرطة قد منعتهم من الجلوس على مقعد في الحديقة! تقول «بارزيني»: «أشعر وكأنني قذرة!».
كورونا سجنٌ جبري
تقول «بارزيني»: «جعلتني إجراءات الإغلاق الجبرية أشعرُ بالاختناق من العالم. إنه أشبه بأنك تعيش خارج العالم، لكنك ما زلت حياً داخله.. هل تفهم شيئًا؟ إنني لم أعد أفعل شيئًا. فقط أفكر وأفكر في كل الأشياء التي يمكنني القيام بها. ولكنني مع ذلك لا أريد أن أفعلها».
عندما سأل «بنيامينو» والدته برزيني عن رغبتها في الاختفاء، وإذا كان الحجر الصحي قد يفي بهذه الرغبة أو يغيرها، أجابت بحزم: «لا، لا أعرف إذا كان هناك مكان واحد في العالم يمكن للمرء أن يذهب إليه بعيدًا عن كل ما يحدث. مازلتُ أبحثُ عن تلك الزاوية في العالم، حيث أنسى من أكون، وماذا فعلت. أريد فقط أن أكون بعيدًا عن هنا».
قاطعها «بنيامينو» برفق لتذكير والدته بأن الحجر الصحي، من نواح كثيرة، هو ركن خاص بها من العالم. ولم يكن أسلوب حياتها الجديد -المحكم والساكن- مختلفًا كثيرًا عن السابق. قائلًا: «هذا ما كنتِ تفعلينه بالفعل لفترة طويلة. كنتِ تعيشين في هذا المكان، بعيدًا عن الناس».
«بارزيني» التي يُمكنها تحويل أي شيء إلى جدال؛ توغلت في الأمر. وقالت: «هذا لا يكفي. هم هناك بجشعهم، الرجال البيض جشعون. قد تكون هذه الجزيرة المفقودة منذ فترة طويلة، لكنها ليست كذلك». هكذا تأتي لحظة نهاية فيلم «اختفاء أمي»، عندما تناقش «بارزيني» وابنها مؤامرة لتمثيل اختفائها.
لقد قيل الكثير عن الطريقة التي يوقف بها الحجر الصحي حياتنا. إنها حياة مقلوبة تقتل حياتنا. إنها مقاطعة لأحبائنا وللفن والرياضة وحفلات الزفاف والفصول الدراسية. ترى كيف تكون طبيعة الحالة النفسية للمرء الذي يمر بهذه التوقفات المفاجئة؟
بعد مناقشات حادة، وافقت أسرة بارزيني على اصطحابها إلى البحر. وصور «بنيامينو» والدته وهي تشق بالمجداف بطن البحر. يا له من مشهد مؤثر حقا، لكنه مجرد محاكاة لما يصطلي ويستعر داخل أعماق بينديتا بارزيني. وعندما تعود إلى منزلها في ميلانو تصبح أكثر اضطرابا وتجد نفسها مدفوعة بالحاجة إلى فصل نفسها عن الحضارة.
ذات مرة، قال لابنها: “أنا لا أعرف، ربما أريد فقط أن أموت”. وعلى الرغم من أنها تتغاضى عن فكرة الهروب؛ إلا أنها تبدو أكثر اهتمامًا بفكرة الخلاص النهائي. وكأنها تتساءل في أعماقها: هل يمكن أن يوفر الموت منفذًا للفرار من الاكتئاب والفزع؟
ومع أوضاع الوحدة الجبرية، تتوفر لدينا مساحة لتخيل المستقبل كيف سيكون. وتطل آمال وردية برؤوسها في أحلامنا. أنه عندما ينتهي هذا الحلم، سنسافر حول العالم، ونجرب مطاعم جديدة. وسنعود إلى العمل.
لكن فيلم «اختفاء أمي» يوحي باحتمال آخر، وهو أن الركود والاستياء هو طريق العالم. وأنه حتى لو عادت الأمور إلى طبيعتها، فسيظل هناك الكثير للاختباء منه والكثير الذي نرفضه، وأيضا لن يمكننا الاعتراض. وعندما ينتهي هذا الكابوس، سيعود كل منا ليبحث عن نفسه، عن حلمه الذي عاش ينتظر تحقيقه، وستعود بينديتا بارزيني إلى شغفها، ولكن هل سيظل هذا الشغف حينها له أية قيمة؟