«مشروع روح».. نموذج جديد للتعددية الثقافية


«كل الفنون تطمح أن تكون موسيقى»، ربما توضح هذه العبارة للناقد والروائي البريطاني والتر باتر، مدى سمو الموسيقى عن باقي الفنون، فهي اللغة الوحيدة التي لا تحتاج إلى تعلمها كي تقرأ أو تكتب بها، فهي الشيء الأصيل في فطرتنا وفي الطبيعة. ومنذ أن نأتي إلى الدنيا ونحن نسمع هدير الطيور وخرير الماء وحفيف الشجر، هكذا تفتح الموسيقى أبوابها للجميع.
حاول الموسيقيون من موتسارت إلى عبد الوهاب، تنقية الموسيقى من كل ما يعوقها لتصبح رسالة إنسانية للجميع. وعندما تتجاور الثقافات الإسلامية والقبطية والإفريقية في نسق واحد، تكون هذه أبلغ تأكيد على جوهر الموسيقى، وهذا ما صنعه أفراد فرقة «مشروع روح» للإنشاد الصوفي كأحد النماذج النوّارة للتعددية الثقافية في مجتمعنا الحضاري.
اقرأ أيضًا: نساء في عالم التلحين│تقى طاهر: الموسيقى لا جنس لها
الموسيقى تعبر الحدود
ينهض «مشروع روح» على دمج الإنشاد الصوفي، مع الترانيم المسيحية، حيث يطالعنا الشيخ والقسيس في حالة موسيقية أشبه بحلقات الذكر أو الحضرة. يقول المغني والملحن محمد بكر، مؤسس مشروع روح: «عندما اندلع حادث كنيسة حلوان، ثم تبعه بأيام انفجارات مسجد الروضة في العريش، فكرتُ لم كل هذا العنف والتشوه والكراهية؟ وفكرتُ كيف يحدث الاحتقان الطائفي؟ إنه نتيجة للتعصب والتعنت وعدم وجود مساحة لسماع الآخر والتعرف عليه، ولذلك فكرتُ أنه من أهم أدوار الموسيقى أنها تساعدنا على فهم الآخر، وتقريب الاختلافات».
بدأ محمد بكر رحلته مع الإنشاد الديني منذ حداثة سنه، ضمن فريق «الكحلاوي» للإنشاد الديني التابع لدار الأوبرا المصرية، ثم استكمل دراسته في كلية التربية الموسيقية، وانضم مؤخرًا لنقابة المهن الموسيقية، وساهم خلال رحلته في الإعداد الموسيقي والألحان لأكثر من 35 عرض مسرحي، سواء في مسرح الدولة، أو الجامعات، وحصد عدة جوائز أبرزها جائزة أفضل موسيقى في مهرجان آفاق المسرحي.
اقرأ أيضًا: العلاج بالموسيقى.. أول مقهى متنقل لمرضى «ألزهايمر»
دُشنت فرقة مشروع روح كأول فرقة مصرية تقدم الإنشاد الصوفي والترانيم المسيحية في كيان واحد، بعد ظهور أفرادها المؤسسين في حلقة تلفزيونية، قدموا حضرة إنشاد بثقافات مختلفة، الصعيدي، والنوبي، وحتى الخليجي، وكانت تشاركهم المطربة النيجيرية كاثرين.
«كنتُ متخوفًا من استقبال الجمهور لهذه الخلطة الموسيقية التي تتجاور فيها الأديان والأعراق والثقافات بلا تمايز»، هكذا قال «بكر» مؤكدًا: «أنا لا أقدم موسيقى دينية، أنا أقدم موسيقى إنسانية».
راقصي التنورة في «مشروع روح»
تضم فرقة «مشروع روح» عددًا من راقصي التنورة كانوا معها منذ أن كانت فكرة في عقل مؤسسها، وهم: علي حسين، وياسمين، وأفنان. وقد جمعهما عرض «قواعد العشق الأربعين»، للمخرج محمد فؤاد، عام 2017م، والذي يروي قصة شمس التبريزي وجلال الدين الرومي، وقد تصادفت هذه الحالة الروحية أن تدفع «بكر» ليبدأ رحلة تأسيس «مشروع روح».

وأكثر ما هو مدهش في فريق راقصي التنورة في «مشروع روح» هو انضمام عناصر نسائية لهذه الرقصة التي شاع تنفيذها بواسطة الرجال منذ القرن الثالث عشر تقريبًا. يقول «بكر»: «عندما عرضتُ على أفنان وياسمين، قلتُ لهما أن تنفيذكما للملوية في إطار التمثيل على خشبة المسرح شيء، وفي حفل إنشاد حقيقي شيء آخر.. هنا لابد أن يكون كل شيء حقيقي وصادق».
«مشروع روح» وتحدي الجديد
التجديد في الموسيقى قد يكون لا قيمة له، إذا كانت فارغة من الروح، وهذا ما يميز محتوى مشروع روح، الذي يمكن وصفه أنه اسم على مسمى، ومع ذلك فإن الجديد ليس له صدى سعيد، المجتمعات بشكل عام لا تحب الجديد، بل إنا ترهبه وتتعامل معه بارتياب أحيانًا، فالفنان الذي يقدم الجديد يحتاج إلى نفس طويل، لتدريب المجتمع على تذوق الجديد.
اقرأيضًا: دراسة علمية: الموسيقى تحفز أداء الذاكرة والجسد
«كنتُ قلقًا أن يستقبل الناس الترانيم المسيحية والأناشيد الصوفية بشيء من الارتياب أو الحنق، خاصة في حفلتنا الأولى في مركز الربع الثقافي 2017، لكن احتفاء الناس كان مُفاجئًا، وبعدها توالت رسائل الشكر والتعليقات الإيجابية التي دعمتنا للاستمرار في تقديم موسيقى مشروع روح». هكذا يشير «بكر» إلى وثاقة الصلة بين الموسيقى والتسامح، إنها تقرب الاختلافات الدينية والعرقية، وعلى ذلك تم دعم الفكرة من فرقة الإنشاد في الأزهر، وفريق الترانيم بالكاتدرائية، فظهور القس والشيخ معًا على المسرح يجهض أي تعصب ديني.
عندما تسمع الموسيقى فأنت تهجر عالم البشر والأشياء، وتلج عالم الفكر والمشاعر، أو على أقل تقدير، هذا هو أحد الانطباعات الكثيرة التي تورثها الموسيقى. ويوضح «بكر»: «أثناء البروفات نتشارك جميعا مسلمين والمسيحيين في ترديد الأناشيد الصوفية والترانيم المسيحية، يشارك معنا شيخ ومرنم، حتى تصبح الفكرة حقيقية». من الصعب تمييز من المسلم والمسيحي، ففي هذه اللحظة تذوب كل الاختلافات.. وتبقى الموسيقى.
«أغلب الأماكن التي عرضنا فيها حفلاتنا، في فندق في احتفالية على مسرح كبير، في أماكن كبيرة مثل ساقية الصاوي، أو في أماكن أصغر، كان الجمهور مع اختلاف طبقاتهم الاجتماعية، يتفاعل معنا بشكل أنا شخصيًا لم أكن أتوقعه، خاصة من قبل الشباب أو الفئة العمرية الأصغر قليلًا المعتادة على الأغاني الشعبية والمهرجانات». هكذا يروي بكر، ويؤكد: «كنت أنتظر كل الردود السلبية، لكن الموسيقى التي قدمتها «روح» كسرت حاجز التوقعات».
تحديات فنية ومادية

قدمت فرقة «مشروع روح» بعض الترانيم بالقبطية، والتي تتكئ في أغلبها على مقامات غربية، والمسافة بين المقامات الغربية والشرقية؛ ليست بعيدة، ويقول «بكر»: «ولكنها ليست قريبة أيضًا، ولذلك كان عليّ اجتياز تحدي تضفير هذا المزيج من الصوفي والترانيم في قالب مناسب، حتى لا تفقد الموسيقى طاقتها الروحانية، وملائمتها للذكر وسط الآلات الغربية والشرقية».
تنهض فرقة «مشروع روح» على الإنتاج الذاتي، كعادة الفرق المستقلة التي تغرد خارج السرب، فلا تجد رعاية مؤسسية بسهولة، وربما كان ذلك عائقًا أمام خروج هذا النوع من الموسيقى الروحانية خارج حدود القاهرة، لصعوبة تدبير مصاريف الانتقالات والتنظيم والاستضافة. ويقول محمد بكر، مؤسس مشروع روح: «حتى الآن لم توجه لنا دعوة خارج المحافظات، ولكننا نطمح للخروج إلى المحافظات، وأن تصل موسيقانا إلى كل شخص».