حكايا ناس

آندي العربي.. أول كفيفة تدرّس اللغة اليونانية للمبصرين

في خريف عام 1998، علم والدا «آندي العربي»، وهي في شهرها الرابع، أنها لن تكون قادرة على الإبصار. ومع تكرار المحاولات العلاجية، والتدخلات الجراحية، لم يبقَ أمامهما سوى التعامل مع إرادة القدر. تقول «آندي»: «والدتي كانت تعتني بتفاصيلي، مثل ترتيب الملابس، تحضير الحقيبة المدرسية، مساعدتي في استذكار دروسي. وأبي كان يقرأ لي قصصًا من الأدب العالمي منذ كنت في عمر العامين تقريبًا، وكلاهما ساعداني على مشاهدة العديد من الأفلام والمسرحيات. في الحقيقة لم أشعر معهما يومًا إني كفيفة».

اقرأ أيضًا: هبة سالم صاحبة أول منيو طعام بطريقة برايل

آندي العربي مع والديها في معرض القاهرة الدولي للكتاب
آندي العربي مع والديها في معرض القاهرة الدولي للكتاب

رفض أم دمج اجتماعي؟

يتصور الناس بشكل عام أن المكفوفين سجناء في عالم أسود، بلا أهداف، بلا أحلام، بلا أفكار أو تصورات عن أي شيء. وبالتالي فهناك حاجز نفسي قائم منذ زمن بعيد في مجتمعنا إذا ما طرحت مسألة الدمج الاجتماعي. ولو اعتبرنا أن شكسبير كان يقصد أن الظلام هو السواد، كما جاء على لسان إحدى شخصياته، فشكسبير حتمًا على خطأ. فقد تعرفت «آندي» على الألوان بمساعدة والدتها، وظهرت موهبتها في الرسم منذ صغرها، وشاركت في أكثر من معرض مدرسي، ولاقت ترحيبَ بعض مدرسيها، أما البعض الآخر؟

«ما عانيته في المدرسة أقل بكثير مما يعانيه بعض المكفوفين في مدارس أخرى». تقول «آندي»: «البعض لا يقبل بسهولة وجوده مع شخص مختلف. والسؤال الملح طوال الوقت: ما الذي ستفعلينه في النهاية؟ هناك نظرة في مجتمعنا تعتقد أن الكفيف، أو من هو ذو احتياج خاص، أنه بلا طموح، بلا مستقبل، بل وهناك ما هو أقسى من ذلك فالبعض يرانا بلا فائدة تمامًا. ولذلك لا تسند لنا الوظائف المناسبة، وكثيرًا ما يتم تهميشنا مهما كنا نستطيع أن نفعل».

اقرأ أيضًا: أول عداء كفيف يحقق رقمًا قياسيًا في الركض بمفرده

الغرام اليوناني

الراديو رفيق دائم لأندي، تستطيع معه أن تشعر بالعالم على حد وصفها. ولكن الفقرة التي تقدمها إذاعة البرنامج الأوروبي، كل أسبوع باسم «البرنامج اليوناني»، اتصلت معها بغرام خاص. حيث تقوم على هذه الفقرة الجالية اليونانية في القاهرة، والذين تعلمت منهم آندي الكثير من مبادئ اللغة اليونانية، وعرفت الكثير عن ثقافة هذا البلد العريق. وهي في الخامسة عشر من عمرها أرادت أن تخبر المذيعين في البرنامج أنها تعلمت اللغة اليونانية منهم، سواء كانوا يقصدون ذلك أم لا، ولذلك هي تريد أن تشكرهم. وجدت ترحيبًا كبيرًا من أسرة البرنامج اليوناني، سواء عبر مداخلاتها الهاتفية، أو عبر الزيارات المتبادلة، خاصة السيدة ستيلا كافورياري والتي قالت لها: «استعدي لتجلسي هنا أمام ميكرفون الإذاعة».

تقول «آندي»: «لم أنشغل كثيرًا بمسألة أشكال الأشخاص، لكنني في الحقيقة تخيلت شكل مذيعي البرنامج اليوناني. كانوا دائمي التردد على منزلنا، لقد أصبحنا أسرة بالمعنى الحقيقي، وربما هذا عامل كبير وراء إصراري على الحصول على شهادة جامعية في اللغة اليونانية».

اقرأ أيضًا: في اليوم العالمي لذوي الهمم.. مشاهير اتخذوا من إعاقتهم سُلمًا للصعود

عثرات صغيرة

لم يستقبل قسم اللغة اليونانية واللاتينية في كلية الآداب فكرة التحاق طالبة كفيفة بشيء من اللين في البداية، فلم تنص لائحة القسم على ذلك. وبعد محاولات عديدة وبمساعدة الدكتور محمد حمدي إبراهيم، رئيس قسم اللغة اليونانية الحديثة وآدابها في كلية الآداب جامعة القاهرة، تم الوصول إلى اتفاق وهو أن تلتحق الطالبة للدراسة في القسم على مسئوليتها، أي أنها إذا لم تستطع استيعاب المنهج الدراسي بسبب غياب طرق وأدوات التدريس لذوي الاحتياجات الخاصة؛ فهذا ليس مسؤولية القسم.

آندي العربي في كلية الآداب
آندي العربي وسط زميلاتها في قسم اللغة اللاتينية وخلفهم تمثال العميد طه حسين

استطاعت آندي أن تحقق تفوقًا غير متوقع في دراستها الجامعية، واجتازت عامها الدراسي الأول بترتيب الأولى على قسمها. وبذلك تصبح أول كفيفة تلتحق بالقسم. ربما حاول قبلها كثيرون أو بعدها للالتحاق بالقسم، لكن اللوائح الصماء وقفت في طريقهم. تقول «آندي»: «كنتُ كلما تعثرتُ في تمثال الدكتور طه حسين في مدخل القسم أقول كيف يُحرمُ كفيف من دخول قسم أنشأه كفيفٌ أيضًا؟».

نجاحات غير مسبوقة

آندي العربي مع سفير اليونان في مصر، والسيدة آنجليكي أسكومبي المسؤولة عن امتحان الألينوماثيا

تروي آندي أن طريقة نطقها للكلمات اليونانية، جعلت بعض أساتذتها في الجامعة وحتى اليونانيين الذين شاركوا في احتفالية اليوم اليوناني في الجامعة، يظنون أنها يونانية الأصل وليست مصرية. بعد ذلك أتيح أمامها فرصة التقدم لاختبار الألينوماثيا، في المركز الثقافي اليوناني، وهي شهادة تدريس اللغة اليونانية مستوى «C2»، واجتازته في فبراير الماضي بامتياز، لتصبح أول كفيفة في مصر تحصل على هذه الشهادة، وفي نفس اليوم تم تكريمها من وزير الخارجية اليوناني.

مع كوستاس فلاسيس نائب وزير الخارجية اليونانية وحرمه

مازال الكثيرون غير قادرين على استيعاب فكرة دمج ذوي الاحتياجات الخاصة مع باقي المجتمع، وحصر إمكاناتهم في وضع معين لا ينبغي تجاوزه. ناهيك عن بعض الأسر التي ترى أن الأشخاص ذوي الاحتياجات لا يستحقون سوى مستوى محدود من التعليم. وهو ما تؤكده آندي: «لقد قصر والداي عليّ الكثير من المتاعب، ودعماني في طريقي لأبعد حد، يكفي أن والدتي كانت ترافقني في المحاضرات التي تُلقى بلغة هي لا تعرفها.. لقد ضحت كثيرًا من أجلي».

كيف يمكن الحصول على كتب في لغة برايل؟

«أعاني من عدم توفر كتبٍ كافية بطريقة برايل». هذه العبارة قد تتردد على لسان كثير من المكفوفين، خاصة من هم في مرحلة الدراسة الجامعية. وتثير «آندي» بعض الأزمات التي واجهتها في الحصول على كتب بطريقة برايل. فالطابعة الوحيدة المخصصة لطباعة كتب من هذه النوعية موجودة في جامعة القاهرة، ولكنها لا تتعامل مع الكتب المصورة أو التي هي بصيغة «PDF»، بل ينبغي أن يكون الكتاب متوفرًا بصيغة «Word»، وهو شرط لا يتحقق إلا مع عدد محدود جدًا من الكتب المتوفرة في المركز. والسؤال الذي يطرح نفسه، لماذا لا تحرص الهيئات الكبرى مثل الهيئة المصرية العامة للكتاب، وهيئة قصور الثقافة، والمجلس الأعلى للثقافة، والمركز القومي للترجمة، على توفير طبعات خاصة من إصداراتها أو حتى نسخا في صيغة «Word» مخصصة لمركز الخدمات في جامعة القاهرة حتى يسهل طباعتها في صورة برايل؟

مع الدكتورة ارغيرو أستاذة اليوناني الحديث في الجامعة، والمستشار التعليمي السابق لليونان تاسوس انستاسيو

«كنتُ أقوم باستخراج الكتاب من المكتبة، أو طباعته إذا توفرت منه نسخة إلكترونية، وبمساعدة الأستاذ ديمتريس نمبوتاكيس أحد أفراد أسرة البرنامج اليوناني، الذي يبدأ في القراءة وأقوم بنقله إلى لغة برايل، حتى أتمكن من استعادة الكتاب مرة أخرى في أي وقت عند استذكاره». هكذا تروي آندي العربي تجربتها في مطالعة الكتب التي لا تتوفر بسهولة في لغة برايل، حتى إنها صار لديها عدد كبير من المسودات والملخصات لكتب كثيرة سواء عربية أو يونانية في لغة برايل لم تكن موجودة من قبل، ويمكن أن تُبادلها مع أي شخص أو مؤسسة تستطيع توفيرها لمن يحتاج إليها.

اقرأ أيضًا: هيلين كيلير .. رحلة من العطاء لا تنتهي

تطوع أم عمل؟

آندي العربي في إذاعة البرنامج اليوناني من مبنى ماسبيرو
آندي العربي في إذاعة البرنامج اليوناني من مبنى ماسبيرو

«لا توجد فرصة عمل واضحة لي حتى الآن، لكن طموحي لا ينتهي. كل نشاطي داخل الإذاعة وما أقدمه من برامج، وترجمات سواء لقصص الأطفال أو غيرها، لا يدخل ضمن إطار العمل المدفوع. بل هو نشاط خدمي تطوعي أقوم به لأني أحب ذلك، وأشعر أنني أمتلك ما يفيد أناسًا آخرين». وتضيف «آندي»: «دخول الإذاعة ليس أمرًا هينًا.. منذ ثلاث سنوات وحتى اليوم يحرص الأستاذ «ديمتريس» على استخراج تصريح لي صباح كل أحد، لم يتخلف يومًا ولم ينسَ أبدًا».

الموسيقى رفيق دائم لـ «آندي» تساعدها على التأمل، والتفكير بشأن مشاريعها الأدبية. حيث تعكف على كتابة روايتها الأولى والتي ستسعى لإصدارها الفترة المقبلة. تحب آندي قراءة القصص والروايات، ومغرمة بالكثير من أدباء اليونان العمالقة مثل كفافيس، وتحرص على قراءة طه حسين، ويوسف إدريس. ولكن تظل أقرب الأعمال إلى قلبها رواية أوليفر تويست لتشاريز ديكنز.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى