حكايا ناس

في يوم الإذاعة العالمي | كيف حافظ الراديو على تاريخ مصر وشكّل وجدان المصريين؟

مع الاحتفال باليوم العالمى للإذاعة الذى يوافق الثالث عشر من فبراير.. تستدعى الأذهان الإذاعة المصرية .. صوت بلدنا.. زمن الفن الجميل .. عندما كان الراديو جزءًا أساسيا من الحياة اليومية للأسرة المصرية.

فمن داخل هذا الصندوق السحري.. خرجت أصوات جمعت المصريين حوله.. وكانت برامجه سببا فى تشكيل وعى الأجيال المتعاقبة.. بل كانت أيضا.. شاهداً فى أحيان على مراحل هامة من تاريخ مصر.. ومشاركة أيضا في صناعة تاريخ مصر والمنطقة بأكملها.

كنوز إبداعية

«هنا القاهرة».. بكلمتين انطلقت الإذاعة المصرية عند افتتاحها فى 31‏ مايو عام 1934 فأصبح هذا اليوم عيدا للإذاعة المصرية.. هذه العبارة الحماسية التي تحمل مشاعر الانتماء للوطن والتي جاءت على لسان الإذاعى الكبير «أحمد سالم» تم اعتمادها كعبارة رسمية لبدء إرسال كل الإذاعات المصرية التي انطلقت في السنوات التالية.

 

أحمد سالم
العظماء السبعة

يعد «أحمد سالم» أول مذيع في الإذاعة المصرية وكان من أوائل الإذاعيين المصريين وهو أحد سبعة تولوا مسؤولية الإذاعة الوليدة ووضعوا أسس العمل بها، وهم: «محمد سعيد لطفي باشا، ومحمد فتحي، وعلي خليل، وأحمد كمال سرور، ومدحت عاصم، وعفاف الرشيدي».

ورغم دراسته لهندسة الطيران بانجلترا.. إلا أن «أحمد سالم» لم يعمل في بهذا المجال إلا فترة وجيزة، وأتاح له صوته المميز وإطلاعه بأن يترأس القسم العربي بالإذاعة المصرية.

لم تتمكن أدوات التسجيل القديمة آنذاك من حفظ تراث «أحمد سالم» وحالت بين وصوله إلى الأجيال المعاصرة، وقدم استقالته بعد أن عرض عليه «طعت حرب» أن يتفرغ لإنشاء شركة مصر للتمثيل، وبنى استوديو مصر على أحدث طراز آنذاك وقدم باكورة إنتاجه فيلم «وداد» لكوكب الشرق «أم كلثوم».

 

الشيخ محمد رفعت
الأفندية والبكوات

بدأت الإذاعة المصرية افتتاحها في تمام الساعة الخامسة والنصف مساء يوم 31‏ مايو عام 1934 بآيات من الذكر الحكيم بصوت الشيخ محمد رفعت، وتلاها انطلاق صوت الآنسة «أم كلثوم» التي تقاضت ٢٥ جنيهًا نظير إحيائها للإفتتاح، وغني أيضًا في ذلك اليوم المطرب صالح عبد الحي، ثم مطرب الملوك والأمراء محمد عبد الوهاب.

وشمل برنامج الاذاعة حسين شوقي أفندي الذي ألقى قصيدة لأمير الشعراء أحمد شوقي بك، وألقى الشاعر علي بك الجارم بصوته قصيدة تحية لملك البلاد فؤاد الأول ملك مصر والسودان، والمونولوجست محمد عبدالقدوس، والموسيقيان مدحت عاصم وسامي الشوا، ومع أحمد سالم كان المذيع محمد فتحي الذي عرف بلقب «كروان الإذاعة».

قصة نجاح

مر تاريخ الإذاعة في مصر‏ بعدة مراحل.. وكان‏ لكل مرحلة سماتها.. وهى‏:‏ الإذاعات الأهلية‏‏ وعهد شركة ماركوني البريطانية‏‏ ومرحلة التمصير وعهد الثورة‏ ومرحلة الشبكات الإذاعية والسيادة الإعلامية حتى الآن.

‏الإذاعات الأهلية

عرفت مصر الإذاعة قبل عام ‏1926‏ ‏‏وتميزت المحطات الأهلية ‏‏ بتركز معظمها في مدينتي القاهرة والإسكندرية‏.. وكانت معظم برامجها باللغة العربية بينما كانت تذيع بالإنجليزية والفرنسية والإيطالية للأجانب فى مصر ‏ وكان معظم أصحاب تلك المحطات من التجار الذين يرغبون في ترويج سلعهم بصفة عامة‏ وتجار أجهزة الراديو بصفة خاصة‏ الذين أقاموا المحطات الإذاعية للترويج لتجارتهم وتحقيق الربح من وراء إذاعة الإعلانات التجارية‏، مثل محطة راديو فؤاد التي أنشأها عزيز بولس‏‏ ومحطة راديو فاروق التي أنشأها إلياس شقال‏.

كانت معظم هذه المحطات شركات بين عدد من الأفراد‏، وكانت ضعيفة الإرسال لا تغطي أكثر من الحي الذي تذيع منه‏.. وتراوح إرسال معظم هذه المحطات الأهلية ما بين‏2‏ – 4‏ ساعات يوميا‏‏ سواء على فترة ارسال واحدة أو علي فترتين..‏‏ وكان الجزء الأكبر من المضمون الإذاعي الذي تقدمه معظم هذه المحطات ترفيهيا‏ مما دفع الجمهور الي الشكوى من بعض المضامين الإذاعية‏‏ وكانت المهاترات بين المحطات الأهلية من أهم أسباب إغلاقها‏‏ وتوقفت عن الإرسال في‏29‏ مايو ‏1934‏ لتترك مكانها للمحطة الحكومية التي بدأت ارسالها في‏31‏ مايو ‏1934.‏

 

شركة ماركوني

‏وافق مجلس الوزراء في يوليو‏1932 ‏ علي أن تتولي شركة ماركوني التلغرافية اللاسلكية كوكيل عن الحكومة المصرية إدارة الإذاعة وتشغيلها‏ وصيانتها وإعداد البرامج والمذيعين‏.

بدأ العمل في إقامة محطات الإرسال وكذلك الاستوديوهات الإذاعية‏‏ في مبني شركة ماركوني في شارع علوي خلف البنك الأهلي المركزي،‏ حيث أقامت الشركة خمسة استوديوهات‏،‏ وشهدت هذه المرحلة إشراف وزارة المواصلات على الإذاعة حتى إنشاء وزارة الشئون الاجتماعية في ‏20‏ أغسطس ‏1939‏ فأصبحت الإذاعة إحدى إداراتها‏.

وفي ‏19‏ أبريل ‏1942‏ أصبحت الإذاعة تابعة لإشراف وزارة الداخلية ‏وعاد الإشراف على الإذاعة لوزارة الشئون الاجتماعية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية‏‏ على أن يبقي لوزارة المواصلات اختصاصها المتمثل في الإشراف على صيانة أجهزة المحطة وادارتها من الناحية الفنية وتحصيل رسوم الرخص والتفتيش عليها‏.‏

وشهد المضمون الإذاعي خلال هذه المرحلة ارتفاعا ملحوظا في مستواه‏‏ وكانت هناك محطتان اذاعيتان هما‏‏ البرنامج الرئيسي‏ بمتوسط ساعات إرسال ‏14‏ ساعة‏ والبرنامج الأوروبي المحلي وكان يقدم مواد ترفيهية وإعلامية للأجانب المقيمين بالقاهرة والاسكندرية لمدة أربع ساعات يوميا باللغتين الانجليزية والفرنسية‏.‏

 

المجلس الأعلى للإذاعة

يعود ارتفاع مستوى المضمون البرامجي في هذه المرحلة مقارنة بمرحلة الإذاعات الأهلية‏، إلى عدة عوامل منها استقلال الإذاعة وتكوين المجلس الأعلى للإذاعة‏ الذي أوكل إليه الإشراف على البرامج وإقرارها‏‏ والوعي الذي تميز به جيل الرواد الذين تولوا مسئوليات العمل الإذاعي في هذه المرحلة.

وقامت الإذاعة بتأدية وظائفها الاخبارية والإرشادية حيث تمثل دور الاذاعة في هذه المرحلة في رسم وتقرير القيم الحقيقية للشخصية المصرية من جميع النواحي‏‏ الاقتصادية والسياسية والاجتماعية‏،‏ وكان للأحاديث الإذاعية لطه حسين والعقاد وفكري أباظة وأحمد أمين وسهير القلماوي دورها المهم في توجيه الرأي العام‏.‏

‏ تمصير الإذاعة‏

تأزمت الأمور بين مصر وبريطانيا بسبب عدم جلاء القوات البريطانية‏ وتقديم مصر شكوى ضد بريطانيا في مجلس الأمن‏، وقيام خلاف بين الحكومة المصرية والشركة البريطانية على سياسة الأخبار الإذاعية‏.. ونتيجة لذلك سلمت شركة ماركوني في ‏27‏ مارس‏1947 الإذاعة،‏ وأصبح الجانبان البرامجي والإداري في يد المصريين‏.

في 18 مايو 1947 أنشئت إدارة الإذاعة اللاسلكية المصرية‏،‏ وتشكل مجلس إدارة للإذاعة وأصبح لها ميزانيتها المستقلة التي تعطي لمجلس الإدارة اختيار المذيعين والكتاب والأدباء والموسيقيين وغيرهم‏ دون التقيد باللوائح المالية العادية‏ وتسلمت الحكومة المصرية محطة الإذاعة‏‏ وأصبحت مصرية شكلا ومضمونا منذ ‏31‏ مايو ‏1946.

وشهد عام ‏1948 انتقال الإذاعة ‏من مقرها في‏‏ شارع علوي إلى شارع الشريفين بطاقة ‏13‏ استوديو‏.

وشهدت هذه المرحلة أيضا صدور تشريع للإذاعة‏ وهو‏ القانون رقم ‏98‏ لسنة ‏1949‏ وأصبحت بمقتضاه الإذاعة هيئة مستقلة ذات شخصية معنوية‏‏ تلحق برئاسة مجلس الوزراء وتسمى الإذاعة المصرية‏.‏

 

الدور والرسالة

تمثل الدور المهم للإذاعة المصرية في هذه المرحلة‏‏ في غرس القيم الحقيقية للشخصية المصرية ‏ من خلال الكوادر المصرية.. فلغة الإذاعة العربية الفصحى كانت لها المكانة المرموقة في البرامج.. وكان التاريخ المصري والعربي والإسلامي موضع عناية واهتمام‏.. ولقي العلم اهتماما متزايدا..‏‏ واستخدمت الإذاعة ساعة جامعة القاهرة لتعلن الوقت عدة مرات كل يوم‏‏ لتوجيه الأنظار نحو هذه المنارة العلمية‏،‏ كما أنشأت قسما للأخبار وبدأت ملامح التمصير تظهر حيث عدل الأسبوع الإذاعي ليبدأ يوم السبت من كل أسبوع‏ اعتبارا من‏ 11‏ فبراير ‏1949‏ وحل المصريون محل الأجانب.‏

الشخصية الاعتبارية

نقلت تبعية الإذاعة المصرية من رئاسة مجلس الوزراء‏‏ إلى وزارة الارشاد القومي في ‏10‏ نوفمبر ‏1952‏ وفي ‏15‏ فبراير ‏1958‏ صدر القرار الجمهوري رقم ‏183‏ لسنة ‏1958‏ باعتبار الإذاعة المصرية مؤسسة عامة ذات شخصية اعتبارية وإلحاقها برئاسة الجمهورية‏، وأصبحت عام ‏1961‏ من المؤسسات العامة ذات الطابع الاقتصادي وسميت‏ المؤسسة المصرية العامة للإذاعة والتليفزيون،‏‏ وفي عام ‏1962‏ تم ضمها إلى وزارة الإرشاد القومي وصدر عام‏1971‏ القرار الجمهوري رقم‏1‏ لسنة‏1971‏ بإنشاء اتحاد الإذاعة والتليفزيون‏.

 

تطور كبير

وشهدت تلك الفترة تطورا‏ حيث زادت ساعات الإرسال وأصبحت برامج الإذاعة بأربع وثلاثين لغة‏‏ وأنشئت اذاعة صوت العرب‏ 1953‏، ثم إذاعة الأسكندرية الإقليمية ‏1954،‏ والبرنامج الثاني ‏1957، وإذاعة الشعب ‏1959، وإذاعة فلسطين ‏1960،‏ وإذاعة الشرق الأوسط‏ 1964،‏ وإذاعة القرآن الكريم ‏1964، والبرنامج الموسيقي 1968، وإذاعة الشباب 1975، بالإضافة إلى الإذاعات الموجهة التي أنشئت عام ‏1953.

الشبكات الإذاعية

في أبريل ‏1981‏ تم تطبيق نظام الشبكات الإذاعية‏,‏ بالإضافة إلى وجود الإذاعات المصرية على القمر المصري النايل سات ‏101,‏ والنايل سات ‏102‏ وبدأ البث الرسمي للشبكات الاذاعية‏:‏ البرنامج العام‏، صوت العرب‏،‏ الشرق الأوسط‏، وسبع اذاعات موجهة من خلال أول قمر صناعي اذاعي‏ «افريستار»‏ اعتبارا من‏30‏ أكتوبر ‏1999،‏ كذلك امتداد ارسال بعض الشبكات الاذاعية على مدى 24 ساعة‏‏ حتى لا يصمت صوت الإذاعة المصرية‏ ولو للحظة واحدة، خاصة مع وجود أحداث عالمية وعربية تهم المستمع المصري والعربي‏ ويرغب في متابعة تطوراتها من خلال الإعلام المصري‏.‏

رواد الإذاعة المصرية

تولى سعيد باشا لطفي أول رئيس للإذاعة المصرية من عام 1934 حتى 1947، ثم جاء محمد بك قاسم من 1947حتى عام 1950، ثم محمد حسني بك نجيب من 1950 حتى عام 1952، وعبد الحميد فهمي الحديدي من 1966 حتى 1969، محمد محمود شعبان من 1972 إلى 1975، صفية زكي المهندس من 1975إلى 1982 ثم فهمى عمر من 1982حتى 1988، أمين بسيوني من 1988 إلى 1991 وحلمي مصطفي البلك من 1991 إلى 1994 وفاروق شوشة من عام 1994 حتى 1997، حمدي الكنيسي من 1997 إلى 2001 ، عمر بطيشة من 2001 إلى 2005، إيناس جوهر من 2005 إلى 2009، انتصار شلبي من 2009 إلى 2011، إسماعيل الششتاوي من 2011 إلى 2013، عادل مصطفى خلال يوليو 2013، وعبد الرحمن رشاد ثم نادية مبروك، وأخيرا محمد نوار الذي تم تعيينه بقرار من الهيئة الوطنية للإعلام منذ 2019 وحتى الآن.

ثقافة وإبداع

ومن ساعة لقلبك، وكلمتين وبس، وهمسة عتاب، وأبلة فضيلة، وربات البيوت، ولغتنا الجميلة.. إلى الأغانى الصباحية والصور الغنائية والدندرمة وعوف الأصيل وألف ليلة وليلة.. مروراً بأصوات أم كلثوم وعباس العقاد وطه حسين ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم والشيخ الباقورى ومحمد رفعت وغيرهم من العظماء.. قدمت الإذاعة وجبات ثقافية وفنية شكلت وجدان وشخصية المصريين.

وعلى مدى تاريخها حمل رواد الإذاعة على عاتقهم نشر الثقافة والإبداع بين جموع الشعب المصرى، وكان منهم على سبيل المثال وليس الحصر محمد محمود شعبان «بابا شارو»، صفية المهندس أول صوت نسائي إذاعي انطلق ليس فى الإذاعة المصرية فحسب بل في إذاعات المشرق العربي كله، ووجدى الحكيم، وجلال معوض، ونجوى أبوالنجا، وأمنية صبرى، وآمال العمدة، وسامية صادق، وعلي خليل، وإيناس جوهر وغيرهم من رواد واساتذة ورموز الإعلام المصري.

 

تسجيلات نادرة

وتضم مكتبة الإذاعة المصرية تسجيلات نادرة لقادة وزعماء ونجوم، كما تضم توثيقاً لأحداث مصرية وعربية مهمة على كافة المستويات بينها وثائق صوتية حول معاهدة 1936 بين الحكومة المصرية والإمبراطورية البريطانية.. وكذلك تفاصيل حفل تولي الملك فاروق حكم مصر حيث ألقى الملك فاروق أولى خطبه عبر الإذاعة المصرية.. وأيضا بيان ثورة يوليو 1952 الأول بصوت البكباشي أنور السادات.. وخطاب تنحي الرئيس عبدالناصر عقب نكسة يونيو.

 

ملحمة النصر

بثت الإذاعة المصرية في يوم 6 أكتوبر 1973 بيان العبور وتوالت بعده البيانات العسكرية واستعادة القوات المسلحة للأراضي المصرية التي حاول العدوان الإسرائيلي اغتصابها.

المسيرة مستمرة

وما زالت الإذاعة تلعب دورا هاما في حالات الطوارئ والأزمات حيث مصداقيتها ودقة الحصول على المعلومة، والإجابة على تساؤلات المستمعين من خلال حوارات بناءة مع الضيوف من المتخصصين وجمهور المستمعين، إلى جانب دورها كقوى ناعمة فى تعزيز حرية التعبير، وتشجيع الاحترام المتبادل والتفاهم بين الثقافات.

ستظل قوة الإعلام الناعمة أقوى وسائط العصر الحديث وأكثرها تأثيرا، خاصة بعدما بات من اليسير الاستماع إليها في السيارات وعلى أجهزة المحمول، ومازال أغلب الجمهور يفضلها في المقام الأول، وتساهم فى تشكيل ثقافته وتفكيره.

Share on facebook
Share on twitter
Share on linkedin
Share on whatsapp
Share on email

اقرأ أيضا:

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى