عم محمد جار الموتى.. 50 عامًا في المقابر

على غير موعد، شددنا الرحال إلى محافظة المنوفية متخذين من مقابر مدينة تلا قبلة لنا، لا لنشارك في جنازة، ولا لقراءة فاتحة الكتاب على ميت أو لزيارة القبور، بل في رحلة البحث عن إنسان اختار أن يسكن المقابر. كل ما نعرفه عنه أن اسمه عم محمد.
لا هاتف ولا بيت ولا عنوان، إلا أن أهالي مدينة “تلا” يعرفون أن عم محمد الذي نقصده يظهر في المقابر دون ميعاد محدد. جلسنا في المقابر ننتظر، نرقب الزائرين، ومن جاء يشكوا لفقيد قسوة الحياة من بعده، ومن جاء يبكي على عزيز فقده لعل البكاء يريحه. ورويدًا هدأت الأقدام، وبدأت أعداد الوافدين تتناقص قبيل صلاة العصر بقليل، حتى لاحت لنا الأمارة التي ذكرها لنا أهل الحي.

رأيتُ مشهدًا اقشعر له بدني، فجأة خرجت القطط من بين القبور، من حيث لا أعرف كيف جاءت، يتبعها بعض الكلاب، تمهيدًا لقدوم سيدها أو صاحبها أو منقذها من الجوع أو بطلها، فكانت بمثابة موكب مهيب يتقدم رجلا أخذ من الزهد وسيلة للعيش في هذه الحياة.
اقرأ أيضًا: واقع دراسة الأدب في مصر.. هل يهبط الكاتب من السماء؟
أخبرته أنني أريد الحديث معه، لم يرفض، وفتح باب المقابر وطلب أن ندخل داخل “الحوش” حيث يسكن؛ لنبدأ التصوير. حين رأيته بملابسه البالية الرثة، وعصاه التي يمسكها بيديه وإنحاءة جسده الهزيل، أصابتني حيرة ما الذي في حياة هذا الرجل يمكن أن يحكيه لي، ظننت أنني لن أخرج من هذا اللقاء الذي انتظرته إلا بكلمات يتيمات، إلا أنه بمجرد ما أخبرته أن الكاميرا بدأت بالتسجيل صال وجال الرجل بصوته الخافت في كل مناحي ذاكرته قبل نحو 50 عامًا، ولم يتوقف أبدًا.
يحمل مشاعر متناقضة تجاه كل من أمه وأبيه، فزواج والده بزوجه أخرى غير أمه شكل صدمه للصبي محمد آنذاك، وكانت المفاجأة بالنسبة له أنه رأى والده مع غير أمه فوكزه في بطنه، الأمر الذي دفع أمه لتشد الرحال مبكرًا حاملة معها مشاق الحياة وضغيرها قاصدة بيت العمدة ليطلقها من زوجها وتلوذ بالفرار بولدها الوحيد.
اقرأ أيضًا: والدة أصغر شيف في مصر: ياسين علمني تحويل محنتي إلى منحة
بين كل حكاية وأخرى يشرب عم محمد الماء، ويردد الكلمات نفسها قائلاً :”الحمد لله العقل رايق وسليم ونفسي صافية وعمر ما أزعل من حد أبدًا”، ثم يعاود الكرة مرة أخرى ويكمل من حيث انتهى تعلم صاحب الـ65 عامًا مهنة “اللحام” من زوج أمه الذي تزوجها بعد طلاقها بإيعاز من العمدة ليتربى الولد بينهما، وحمل عم محمد كل الحب الذي أبوه الجديد كما أطلق عليه.

وبسؤال بدا فيه إلحاح مني على عم محمد بأن ينتقل إلى النقطة التي أوصلته لكي يترك حياته ويسكن المقابر وحيدًا دون أهل ولا خل ولا زوجة، قال وهو يضحك أنه لم ينجذب إلى أي امرأة من قبل، ولإرضاء أمه تزوج الفتاة التي اختارتها له قبل أن يسعر بفداحة ما فعل وثقل ما حمل نفسه عليه فر يومه عرسه إلى محطة القطار راجيا من الناس أن يطلقوه، ويتركوه مع أمه.

بعد أن توفت أمه لم يجد عونا ولا سندا فقرر أن يترك الجمل بما حمل، ويتجه إلى مقابر تلا، ثم يصمت لفترة ويضع عم يده على قلبه مرارا يقول لي :”طول ما هنا أبيض والنية صافية متخافش ومزعلش من أي حد، وهعيش مع القطط حبايبي والكلاب وأنا لما بأكلهم ربنا بيديني القوة.
اقرأ أيضًا: «كن سينجل».. الارتباط يُمكن أن يزيد من احتمالية إصابتك بـ«كورونا»
وعن حياته بين القبور، بنبرة لا تخلو من حزن قال عم محمد إنه يسعر بالأمان وهو مجاور للأموات فالبعد عن البشر غنيمة كما يرى هو، وأنه في الليالي الباردة بختبئ من المطر تحت أي سقيفة، حتى يستقر الطقس ثم يبدأ بتحضير غذائه مؤكدًا أنه يجيد الطبخ الذي تعمله من والدته قائلاً:” بجيب فراخ وبسبق، وبيض”.

السؤال الذي اعتدت طرحه على كم أحاوره ماالذي تحلم به، كانت إجابته مغايرة تلك المرة، لم يأخذ عم محمد وقتًا ليجيب وعلى الفور قال إنه لا ينقصه أي شيء ولا يرغب في أن تغير حياته التي وجدها بين الأموات.
