حكايا ناسسلايدر

رحلة في عالم التلاوة.. «رفعت والمنشاوي والشعشاعي» أذابوا قلوب المنصتين

التراث المصري ليس فقط أبنية قديمة مر على إنشائها آلاف السنين، أو تماثيل ذهبية لملوك ما قبل الميلاد.. وإنما يشمل أيضًا أصوات ذهبية رتلت القرآن الكريم ترتيلاً، وأبدعت في تلاوته حتى ذاع صيتهم في مختلف أنحاء العالم.

أصبحت أصواتهم علامة مميزة في تلاوة القرآن وخاصة قبل آذان المغرب في شهر رمضان الكريم، لما تملكه هذه الأصوات من تأثير قوي في القلوب كما أنها تعطي روحانية خاصة لشهر رمضان.

في هذا التقرير نذهب في رحلة لعالم التلاوة أبطالها ثلاثة من أفضل قراء القرآن الكريم في العالم على مر التاريخ، وهم الشيخ محمد رفعت، و محمد صديق المنشاوي، وعبد الفتاح الشعشاعي.

آذان المغرب بصوت رفعت

صوت الشيخ محمد رفعت بات جزءا من الطقوس الرمضانية التي تسبق رفع الأذان عند صلاة المغرب، وذلك لتعدد طبقاته، واتساع مساحته، وقدرته على اختراق القلوب والاستقرار فيها بمجرد الانصات إليه.

بدأت رحلة رفعت في عالم التلاوة بمسجد فاضل باشا بحي السيدة زينب، سنة 1918، وكان في سن الـ15من عمره.

وانطلقت بعدها مسيرة طويلة، وضعت المصريون في مرتبة لم يبلغها أحد من القراء، وحين اُفتتح بث الإذاعة المصرية سنة 1934، وصل صوته للجميع.

وتحول إلى عنوان وهوية كما ساعد على صعود مواهب وقامات ثقافية كثيرة ارتبطت بثورة 1919، مثل الشيخ سيد درويش، والنحات محمود مختار، والأدباء طه حسين وتوفيق الحكيم ويحيي حقي.

ولم تخلُ سيرة الشيخ محمد رفعت من نزعات درامية؛ فقد ولد بدرب الأغوات بحي المغربلين بالقاهرة، لعائلة من عائلات الطبقة الوسطى.

وكان والده ضابطا بقسم الجمالية.. وكعادة أبناء تلك السنوات، تلقى تعليما دينيا في أحد الكتاتيب.

بدأ حفظ القرآن الكريم في كُتّاب “بشتاك”، الملحق بمسجد فاضل باشا بدرب الجماميز بالسيدة زينب، تمهيدا لالتحاقه بالأزهر الشريف قبل ظهور الجامعة المصرية 1908.

اقرأ أيضا: وثيقة تاريخية.. كيف أدان الأزهر مذابح الأرمن قبل 112 عاما؟

الشيخ محمد رفعت

وبعد مرور 6 سنوات، رشحه شيخه لإحياء الليالي في الأماكن المجاورة القريبة، فدرس علم القراءات والتجويد لمدة عامين على الشيخ عبدالفتاح هنيدي، صاحب أعلى سند في وقته، ونال إجازته.

وحين توفي والده محمود رفعت، مأمور قسم شرطة الجمالية، وكان حينها بعمر الـ9، وجد الطفل اليتيم نفسه مسؤولا عن أسرته المؤلفة من والدته وخالته وأخته وأخيه “محرم”، وأصبح عائلها الوحيد.

وكان ما يميز رفعت أنه عندما يقرأ يبكي تأثرا؛ حتى إنه انهار مرة وهو في الصلاة عندما كان يؤم المصلين، إذ كان يتلوا آية فيها موقف من مواقف عذاب الآخرة.

وطلبت منه هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” العربية تسجيل القرآن الكريم بصوته، فرفض ظنا منه أنه حرام لأنهم غير مسلمين، فاستفتى الإمام المراغي، فشرح له الأمر، وأخبره بأنه غير حرام، فسجل لهم سورة مريم.

اقرأ أيضا: «أسماء» قاهرة التوحد .. بطلة كاراتيه تمدح الرسول وطباخة ماهرة

الشيخ محمد رفعت في رحاب الأزهر

وهناك ضابط كندي كان ضمن قوات الحلفاء في مصر، طلب من مدير الإذاعة أن يسهل له مقابلة الشيخ رفعت، وحين التقاه فوجئ بأنه أعمى وبكى، وقال لمن معه: “الآن عرفت سر الألم العظيم الذي يفيض من صوته العبقري”.

المنشاوي.. الصوت الباكي

ننتقل في رحلتنا إلى تجربة أخرى وهى تجربة الصوت الباكي، للشيخ محمد صديق المنشاوي، الذي يرتل القرآن بهدوء لم يسبق له مثيل، كأنه يقرأ القرآن بقلبه وليس بلسانه وكأنه يفسره.

استطاع الشيخ الذي لم يتجاوز 49 عاما عند وفاته أن يخلق لنفسه جمهور كبير من السامعين حتى بات من أشهر المرتلين للقرآن في العالم العربي، هو الشيخ المنشاوي الذي له تاريخ طويل مع قراءة القرآن وتلاوته.

ولد محمد صديق المنشاوي، عام 1920،، في قرية البواريك بمدينة المنشاة، التابعة بمحافظة سوهاج، وختم القرآن وسنه ثمان سنوات في كتّاب قريته، ثم انتقل في عمر الثانية عشر إلى القاهرة لدراسة علوم القرآن.

وبدأ رحلته في القراءة بالمساجد والمحافل، حتى ذاع صيته وأطلق عليه لقب «مقرئ الجمهورية».

الشيخ محمد صديق المنشاوي

ثم عرف طريق التلاوة خلال رحلة تجوله مع والده وعمه في السهرات المختلفة، حتي سنحت له الفرصة لكي يقرأ منفردا عام 1952 بمحافظة سوهاج.

سجل المنشاوي القرآن الكريم كاملاً مجوّدا، كما أن له قراءات مشتركة مع الشيخين كامل البهتيمي وفؤاد العروسي، كما قرأ القرآن في المسجد الأقصى، وعدد من الدول منها الكويت، سوريا، وليبيا.

طلبه الرئيس جمال عبد الناصر للقراءة في مأتم والده بالإسكندرية، وبعد انتهاء العزاء دعا عبدالناصر الشيخ للمبيت في الغرفة المجاورة، وفي الصباح دعاه لترتيل آيات من الذكر الحكيم.

تواشيح الشعشاعي

صوت آخر لن ينساه المصريون مهما مر عليه من سنين وهو صوت الشيخ عبدالفتاح الشعشاعى الذي منَّ الله عليه بأداء قرآني فريد، وصوت روحاني عذب خاشع، يثير التأمل والتدبر في قلوب مُستمعيه وكوَّن الشيخ في مُستهل مسيرته فرقة تُنشِد التواشيح الدينية في الليالي والمناسبات، ثم تفرغ لتلاوة القرآن الكريم حتى عُرف كأحد أشهر قراء عصره.

الشيخ عبدالفتاح الشعشاعى

ولد الشيخ الشعشاعي، في قرية شعشاع بالمنوفية فِي 21 مارس عام 1890 م، وحفظ القرآن الكريم على يد والده الشيخ محمود الشعشاعي في عمر 10 سنوات، فأتم حفظ القرآن في عام 1900م.

تعلم التجويد وأصول المد بالطريقة العادية في المسجد ، ثم إلتحق بالأزهر ودرس هناك القراءات على يد الشيخ بيومي والشيخ على سبيع، كان ذلك عام 1914 م، وسكن بحي الدرب الأحمر، وبدأ صيته يذيع في القاهرة بين أساطين دولة التلاوة أمثال على محمود ومحمد رفعت.

وبدأت صوته يصل للجميع فِي ذلك المساء البعيد الذي دخل ليقرأ فيه بالليلة الختامية لمولد الإمام الحسين مع أعظم وأنبغ المقرئين في بداية القرن العشرين، أمثال، الشيخ محمد رفعت والشيخ أحمد ندا والشيخ علي محمود والشيخ العيسوي والشيخ محمد جاد الله، ومن تلك الليلة انطلق صوته إلى العالم الإسلامي وأصبح له مكان في القمة وأصبح له مريدين وتلاميذ ومنهم الشيخ محمود على البنا والشيخ أبوالعينين شعيشع وغيرهما كثير.

الشيخ عبدالفتاح الشعشاعى في حضور جمال عبد الناصر

وحاز “الشعشاعي” على العديد من الأوسمة من وزارة الأوقاف، وفي عام 1990 م منح الرئيس الأسبق حسني مبارك اسم الشيخ الشعشاعي وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى؛ تقديرًا لدوره في مجال تلاوة القرآن، إلى أن توفى في 11 نوفمبر عام 1962م عن عمر يناهز 72 عامًا.

وكانت حياته حافلة بالعطاء، وخلف وراءه تراثًا قيمًا سيظل خالدًا خلود القرآن، ومكتبة صوتية للقرآن الكريم تضم أكثر من 400 تسجيل موجودة بالإذاعة المصرية، وترك ابنه إبراهيم الشعشاعي على دربه فتألق وجابت شهرته الآفاق.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى