فيلم «الأب».. لماذا لا يتخلص العالم من العجائز؟


متى يُصاب المرء بالشيخوخة؟ أو متى يشعر المرء بآثار تقدمه في العمر، من الوهن وضعف الذاكرة؟ هل هناك إنذار يمكن أن ينتبه له المرء قبل أن يشيخ ويضعف؟ في فيلم «الأب»، نرى في البداية العجوز الثمانيني «أنطوني» -والذي يجسد دوره النجم البريطاني أنطوني هوبكنز- شخصًا عاديًا متزنًا، لديه ابنة يحبها، وتعتني به، ولكن سرعان ما ندرك أن لديه سلوكًا فظًا بعض الشيء لكن كل شيء متزن في الدقائق الأولى من الفيلم.
يجمع فيلم «الأب» بين الغموض والدراما النفسية، وهو تصوير مهيب للتفاصيل الصغيرة التي تتساقط من الذاكرة ببطء، فالناس والوقت والمكان أصبحوا بالنسبة لـ «أنطوني» مثل الريح في قبضة اليد. يتمسك العجوز بساعته في قلق شديد. يتحول الصباح إلى شفق في لحظة تبادل إفطار واحد؛ يتوقف الحديث كلما ذُكرت ابنته الثانية «لوسي». وبينما يحاول المشاهدون تجميع القطع المتناثرة من ذكريات «أنطوني» وحياته؛ فإن هدف الكاتب والمخرج فلوريان زيلر أن يضعنا بلا أية مقدمات في قلب ذكريات «أنطوني» المشوهة. إنه أسلوب على قدر بساطته؛ فهو وحشي ومرعب. إننا -المشاهدون- يتم التلاعب بنا طوال الوقت، لدرجة أنه ينتابنا الشك في حقيقية كل شيء نراه مع العجوز الذي يجاهد بعنف ليقبض على حاضره، لكننا لا نستطيع، وطوال الوقت نتساءل: أين نحن؟ ومتى حدث أو يحدث كل هذا؟

السينما في رداء مسرحي
ما الذي يفكر فيه فلوريان زيلر، الروائي والكاتب المسرحي الفرنسي، والذي بالكاد سيتم عامه الثاني والأربعين خلال شهر يونيو القادم، عندما قرر أن يقدم معاناة عجوز في أرذل العمر؟
هناك الكثير من المخاوف تنتاب بعض المبدعين عند بلوغ الأربعينيات من قسوة الشيخوخة، وأنك حينها قد يكون وجودك مجرد زحام لشخص آخر يبحث عن إزاحتك من طريقه. أو بتعبير آخر، أن تكون زائدًا عن الحاجة. وهذا هو جوهر مسرحية «الأب» التي حاز عنها فلوريان زيلر على جائزة مهرجان موليير المسرحي عام 2014م. ثم شق بها طريقه نحو المسارح البريطانية. وبعد حصده لعدة جوائز، يقرر أن يقدمها للسينما، وتكون محاولته الأولى في ميدان الإخراج السينمائي، بالتعاون مع اثنين من النجوم الكبار، الحائزين على جائزة الأوسكار كأفضل ممثل وممثلة. النجم أنطوني هوبكنز، والنجمة أوليفيا كولمان.
اقرأ أيضًا: حفل لم يحدث من قبل.. «الأوسكار» في زمن الكورونا
تشعرُ «آن» تشعر بالقلق على والدها، لقد أخاف للتو مقدمة الرعاية الأخيرة له بعد اتهامه لها بالسرقة، وهنا تفكر آن بصوت عالٍ ما المصاعب التي تنتظرها لإيجاد مقدمة رعاية جديدة؟ وماذا سيكون الحال لو أن ووالدها تسبب في طردها هي الأخرى؟ وتبوح له بسر لأول مرة، إنها على وشك إقامة علاقة غرامية جديدة، في باريس.. ولذلك يلزم انتقالها خلال أيام، ولن يتم ذلك حتى تطمئن على أن والدها في رعاية جيدة.

بعد مغادرة «آن» نسمعُ ضوضاء في الشقة، ونكتشفُ رجلاً غريبًا (مارك جاتيس) يقرأ صحيفة. الرجل يعرف نفسه على أنه «بول»، زوج آن.. ويفكر العجوز ألم تذكره ابنته منذ دقيقتين أنها مطلقة، وتسعى لبناء علاقة جديدة؟ ولماذا يقول هذا الـ «بول» أن أنطوني مجرد ضيف عندهم؟ يرتبك أنطوني كثيرًا، ولا يستطيع أن يستوعب كيف أن هذه الشقة التي يقيم فيها ليست شقته، وفجأة يسمع صوت فتح الباب فيشعر بالارتياح لوصول آن، ولكنها ليست آن التي كانت معها منذ قليل.
لقد لعبت دور «آن» هذه المرة النجمة «أوليفيا ويليامز» ولم نتعرف عليها نحن ولا أنتوني. في وقت لاحق، سيظهر «بول» زوج آن مرة أخرى، ولكن يلعب الدور حينها النجم البريطاني روفوس سيويل بشكل مختلف تمامًا، وأكثر غضبًا، ما يصعد بنبرة الفيلم نحو شيء أكثر تعقيدًا وأكثر قتامة.
الممثل الحرباء
قدم أنطوني هوبكنز العديد من الأدوار المتنوعة والمؤثرة. ورغم أن أداءه لشخصيتي الملك لير، وهانيبال ليكتر، يظل من أكثر الأدوار الساحرة للعجوز البريطاني؛ إلا أنه لم يكن أبدًا ممثلًا جسديًا، بل إن سحر أنطوني هوبكنز يقبع دائمًا في الجزء الأعلى فوق رقبته. في قدرته على التحكم بملامحه وتعبيرات الوجه. لكن أنطوني هوبكنز مع فلوريان زيلير -الكاتب المسرحي الذي يقدم أول فيلم سينمائي من إخراجه- يغير جلده، ونراه يبرز قدرته على الإشارات والإيماءات الصغيرة، التي قد تكون في معظم الحالات مجردة من الكلمات ومؤلمة بشدة.
اقرأ أيضًا: دهشة وبكاء ورقص.. ردود فعل الفائزين بجوائز جولدن جلوب 2021 | شاهد
لم يهتم الفيلم بتقديم تشخيص طبي محدد لحالة «أنطوني». بل تركنا نعيش معه حالته دون أن نعرف مثله تماما ماذا يحدث. هل هو خرف؟ أم نوبة هذيانية؟ أم تداعيات مرض الزهايمر؟ كل ذلك لا يهم لقد أراد فلوريان زيلر أن نعاني مثل أنطوني من ارتباك إدراكنا للحقائق، وصعوبة تفسير ما يحدث؛ وقد نجح في ذلك.

لا تزحف الشيخوخة على كل مشهد فحسبْ؛ بل تنقض. ويتجلى ذلك بالطرق التي ينحرف بها أداء «هوبكنز» ينحرف بسرعة ورقة شجر تتقلب في الريح؛ من مرح إلى غاضب، ومن ساحر عذب إلى قاسٍ. إنه أداء شيطاني مذهل على أقل توصيف، ويمكن ملاحظة ذلك بدقة في المشهد الذي جمعه مع مقدمة الرعاية الجديدة (إيموجين بوتس)، لقد حول الأداء المشهد الهادئ إلى مشهد صاخب متقلب مثل موج البحر، فهو في البداية يرحب بالفتاة في لطف، ويقدم نفسه على أنه عجوز متصابٍ، وفجأة يتحول إلى شخصٍ ناقمٍ يضمر الكثير من الضيق والسخط لابنته التي تعتني به. إنه أسلوب مسرحي بامتياز في صياغة المشاهد، وطريق عمل خطوطها الدرامية بسرعة ودينماكية تعتمد على حوار يطور الحبكة ويعقدها ويصل بها إلى ذروتها في كل مشهد جديد.

الوجود المدمر
«هل تنوي الاستمرار في تدمير حياة ابنتك؟». هكذا يدق «سيويل» جرس الإنذار لـ «أنطوني». فقد كشف أداؤه الحاد عن زواج متعثر مع ابنة هذا الرجل العجوز -آن- الذي يستحوذ على اهتمامها ولا يجلب لها سوى القلق والإجهاد.
يتميز أسلوب فلوريان زيلر في تقديمه لشخصية مريض الزهايمر أو الخرف، بشكل غير اعتيادي. فهو لم يتكئ على أزمة النسيان التقليدية للذكريات، بل نحن في أزمة تحديد ملامح الحاضر الذي نعيشه. من خلال معايشة «زيلر» لهذه الحالة؛ توصل إلى أننا قد لا ننسى الأشياء أو تكوينها المادي، لكننا ننسى ماهيتها. وهذا يعانيه «أنطوني» في الفيلم، فهو يعرف كل الأشخاص الذين يراهم، لكنه لا يعرف من هم بالنسبة له. كل فتاة يلتقيها يراها ابنته، وكل وجبة طعام هي دجاجة، وكل شخص هو زوج ابنته الذي يريد أن يتخلص منه، وكل مكان يقطن فيه هو شقته التي أبدًا لن يتخلى عنها.
ينتج عن هذا التوتر بعض المشاهد التي تقترب بشكل صادم من الرعب، وربما يكون ذلك مقصودًا لكنه مؤلمٌ حقًا. ويقول النجم أنطوني هوبكنز في مقابلة أجريت معه مؤخرًا: «أثناء التصوير؛ غرقتُ في تخيل اللحظة التي سأموت فيها، وفكرت: ماذا لو كنتُ أنا نفسه من يفسد حياة من حوله بسبب تماديه في العيش طويلا؟ إنه بالتأكيد هناك شخص ما يحمل لي نفس هذه المشاعر. إن مجرد تخيل ذلك أمر قاس للغاية».