المصريون القدماء والسمك│ «الفسيخ» اختراع فرعوني.. البياض والبلطي طعام الفقراء


حرّم المصريون القدماء أكلَ السمك في بعض أيام السنة، ولعلهم أرادوا بذلك إفساح المجال ليتكاثر السمك في النيل، خصوصًا وقت انخفاض منسوب الماء، ورغم أنهم كانوا يقدسون الأسماك ويعتبرونها روحًا طيبة؛ إلا أن الكهنة كانوا لا يأكلون السمك، ويعدونه لحمًا نجسًا، والكاهن الذي يتناول السمك يُعتبر غير طاهر، ويُمنع من ممارسة عمله في المعبد.
يقول وليم نظير في كتابه «الثروة الحيوانية عند قدماء المصريين»، إن الكفرة فقط هم الذين يصطادون الأسماك في أيام: 22 توت و۸۳ كيهات و53 برمون وفي ۹۲ کیهك. وكان العامة إذا أكلوا سمكًا يطردون من المعابد، وفقًا لما ورد في أحد المتون المصرية القديمة.

تُعد الأسماك من أهم مصادر الثروة المائية منذ العصر الحجري الحديث. عندما استوطن المصريون القدماء بالقرب من مياه النيل والذي كان يمدهم بالكثير منها، خصوصا وقت الفيضان. وكانت مصر غنية بالأسماك، حيث يستهلك المصريون كثيرا من أنواعها المختلفة كما هو واضح من نقوش المقابر. وتعد الأسماك -آنذاك- من أشهى الأطعمة عند المترفين من الناس.
اقرأ أيضًا: غرام الفنان بالعزلة.. حكاية مستمرة رغم الكورونا
ومن اللافت للنظر؛ أن معظم قوائم الطعام المصرية القديمة كانت تخلو من السمك. فلم يظهر السمك على موائد القربان إلا نادرًا. يقول وليم نظير: «من الغريب أن تجد أحد الملوك كان يقف بعيدًا عن الناس الذين يأكلون السمك. ونرى على جدران معبد الدير البحري بطيبة رسوم الأسماك النيلية، بطريقة تفيض بالحياة إلى درجة تثير الدهشة».
عرف المصري القديم سمك البياض، وقد ظهر ذلك في العديد من البرديات والنقوش في العصر الإغريقي والروماني. ثم اكتسب معنى جديدا في العصر المسيحي. حتى أصبح السمك من الرموز الشائع استخدامها في الفن القبطي في مصر. ويلاحظ أن تصوير السمك في الفن القبطي يعد امتدادا لمناظر الصيد في مصر القديمة.
ذكر الفيلسوف اليوناني بلوتارك، أن المصريين القدماء حرمّوا صيد بعض أنواع الأسماك المقدسة أو لمسها أو أكلها مثل: قشر البياض، وفتيل البياض وثعبان الماء والبني والقتوم. وقد أشار «هیرودوت»، إلى أن المصريين لا يأكلون أي نوع من الأسماك في مقاطعة البهنا، وغيرها.

لم يكن تحريم أكل السمك في مصر معمما على الجميع، وأغلب الظن أنه كان يشبه إلى حد كبير ما هو متبع عند المسيحيين الشرقيين في الوقت الحاضر. حيثُ يحرمون أكل السمك في بعض الأعياد الدينية، بينما يسمحون بتناوله في أيام أخرى.
وروى «هيرودوت» أن المصريين عرفوا من الأسماك «قشر البياض» و«البلطي»، أما الأنواع الأخرى فكانوا يشقون منتصفها ويملحونها، ويعلقونها على حبال في الشمس، أو يتركونها في تيار الهواء الجاري لتجف تماما، وأضاف أن الأسماك المملحة كانت تؤكل بكثرة وأغلب الظن أنه يعني بذلك الملوحة أو الفسيخ.
اقرأ أيضًا: «أفروديت» في البحرين.. أبرز مقتنيات المتاحف في «المنامة»
برع المصريون القدماء في حفظ الأسماك وتجفيفها واستخراج البطارخ من بعض أنواعها وكان للسمك المجفف أهمية كبيرة في تموين المصريين، ويتألف منه الطعام الرئيسي للفقراء. وكانت الأسماك تحفظ في المقابر مع غيرها من أنواع الطعام والشراب، وقد عثر على أسماك كثيرة محنطة ومجففة في عصور مختلفة.

ويرى وليم نظير في كتابه، أنه من الجدير لنا أن نعرف كيفية تحنيط هذه الأسماك عند القدماء. فقد وجد بعضها خاليا من آثار القار الذي يستعمل في التحنيط. وظهر من التحليل الكيميائي أنها نقعت في محلول من الماء المالح ثم أحيطت بطبقة من الطين المحمل بمواد ملحية، تعلوها لفائف محكمة بمهارة. وبفضل جفاف الهواء وحماية الرمال الجافة أمكن حفظ هذه المومياوات آلاف السنين، حتى أن بعضها لا يزال يحتوي على مواد حيوانية. وقد عثر في المقابر على تماثيل صغيرة لأسماك مصنوعة من البرنز، بعضها متوج بقرص الشمس وقرني البقرة «حتحور». وبعضها الآخر على شكل سيدة تعلو رأسها سمكة تمثل الإله له حات محيت إله السمك.
اقرأ أيضًا: يوسف إدريس يُحاور دورينمات في سويسرا والقاهرة
أما الأسماك المصنوعة من الأردواز، فكانت تستعمل لصحن الكحل. وتقوم الدولة في الوقت الحاضر بإجراء تجارب لتنمية الثروة السمكية وإعادتها إلى ما كانت عليه من ازدهار في العصور الفرعونية.
وتعد الأسماك مصدرا طبيعيا في البلاد التي ليست بها مراعٍ طبيعية أو قطعانا للماشية. وتصور بعض جدران المقابر النبلاء وهم يصطادون السمك بالشص أو بالحربة في قوارب مصنوعة من الخشب أو عيدان البردي. وكانوا يعتقدون أن القوارب المصنوعة من البردي تحمي راكب اليم من الأذى، وترد عنه فتك التماسيح والأرواح الشريرة. وكان المصريون القدماء يحرصون على أن تسير هذه القوارب في القنوات أو البحيرات بخفة وبلا ضوضاء؛ حتى لا ينزعج السمك في مياه النيل.