حكايا ناسسلايدر

«الترام».. حكاية «عفريت» غير حياة المصريين

في أغسطس من عام 1893 أعلنت الحكومة المصرية، عن رغبتها بمدّ خطوط الترام في العاصمة، وفي نوفمبر 1894، وافق مجلس النظار (الوزراء حالياً)، على منح امتياز بإنشاء سكة ترامواي، تسير بالكهرباء، لشركة بلجيكية، وقد تقرر أن يتم شق ثمانية خطوط، تبدأ كلّها من ميدان العتبة الخضراء.

«الترام».. «عفريت» غير حياة المصريين
«الترام».. «عفريت» غير حياة المصريين

عفريت القاهرة

في أول أغسطس عام 1896، أجرت الشركة حفلةً تجريبية، لتسيير أول قطار كهربائي، ففي الساعة العاشرة من صباح اليوم المذكور- وفقاً لما ورد في كتاب “ترام القاهرة” للكاتب والباحث محمد سيد كيلاني- ركب حسين فخري باشا ناظر الأشغال في ذلك الوقت، ومعه بعض كبار موظفي الوزارة، قطاراً أقلّهم من بولاق، ماراً بميدان العتبة إلى القلعة، وقد اصطف عشرات الآلاف من الناس على الجانبين، ليشاهدوا أول مركبة سارت في العاصمة بقوة الكهرباء، والأولاد يركضون وراءها مئاتٍ وهم يصرخون: العفريت… العفريت!

اقرأ أيضا: «عم مصطفى كورة» 50 سنة في خياطة أحلام الشهرة
تذكرة الترام
تذكرة الترام

6 مليم للدرجة الأولى

وكانت أجرة الركوب 6 مليم للدرجة الأولى، و 4 للثانية، وقد عينت الشركة 400 مصري، للعمل في خطوط الترام، ووضعت الشركة بالاتفاق مع الحكومة لائحة خاصة، لتنظيم عملية الركوب وأهم بنودها: أن كل مُحدث غوغاء أو سكران أو مصاب بعاهة، تشمئز منها النفس، يُمنع من ركوب الترام.

اقرأ أيضا: تعلم الطبلة.. مدرسة دربكة إيقاع على وزن الحياة
«الترام».. «عفريت» غير حياة المصريين
«الترام».. «عفريت» غير حياة المصريين

عزلة قاتلة

ثورة عارمة، أحدثتها عربات الترام في المجتمع القاهري، نسفت الوجه القديم للمدينة، وحررت السكان من عزلتهم القاتلة، فقبل الترام، حسبما ذكر الكاتب محمد سيد كيلاني في كتابه، كان سكان كلّ حيّ، يعيشون بمعزل عن سكان الحي الآخر، فسكّان العباسية مثلاً، لا يفكرون في الذهاب إلى مصر القديمة إلا لأمر هام، وقلما يفعل ذلك، وكان التجار وأصحاب الحرف يتخذون محلاتهم في الحارات التي يقطنون بها أو قريباً منها والتلميذ الذي لا يجد مدرسة في حيّه، ينصرف، في الغالب، عن الدراسة.

وفي تلك الفترة اقتصرت وسائل المواصلات على العربات التي تجرّها الحمير، وكان لها مواقف خاصة بها ويسمى صاحبها بالحوذي، وعربات الأمنيبوس.. أما عربات الخيول فكانت مخصصة للأغنياء، وبعض متوسطي الحال.

اقرأ أيضا: خاير بك.. قصة مسجد لم تُقم فيه صلاة منذ تشييده قبل 500 عام
«الترام».. «عفريت» غير حياة المصريين
«الترام».. «عفريت» غير حياة المصريين

انفتاح عام

بواسطة الترام، عرف سكان القاهرة الطريق إلى أماكن السهر، والمراقص والمسارح، وحديقة الأزبكية التي أصبح اسمها، يثير في الأذهان البهجة والأنس والسرور، ومن جراء التجمعات واللقاءات بين الناس، ظهر مصطلح «الرأي العام» وتأسست مجموعة من الجمعيات التي اجتهدت في فتح المدارس، كما كثرت الأندية الثقافية، والصحف والمجلات، وتشكلت الحركة العمالية، وكثرت المسارح وصالات الرقص، والغناء، فحدثت نهضة فنية كبيرة، كما كثر إنشاء الأندية الرياضية، لمختلف الألعاب وتشكلت الفرق الوطنية والأجنبية.

اقرأ أيضا: مدحت فقوسة.. عالمي منعته الحرب من تحقيق أحلامه الكروية

«الترام».. «عفريت» غير حياة المصريين
«الترام».. «عفريت» غير حياة المصريين

علامة يوم القيامة

أحدثت عربات الترام في القاهرة، حالة من الهوس والإثارة والمرح، فخروج المصريين كان بمثابة ثورة على الأعراف والتقاليد التي كرستها العزلة، فكان هناك شبق للحياة وملذاتها التي انفتحت أمامهم كعالم مسحور، الأمر الذي جعل رجال الدين والمشايخ، يصدرون فتوى بأن الترام، وما أحدثه في المجتمع القاهري، علامة من علامات يوم القيامة.

وقد ذاع صيت العلاقات غير الشرعية، وذكرت صحيفة المقطم، أنه في مساء أحد الأيام تمّ العثور على ثلاثة عشر لقيطاً في جوانب القاهرة، وثمة حكاية أخرى ترددت في ذلك الزمن عن أحمد عياد، وكيل قناصل انجلترا وروسيا والبلجيك في الأقصر، الذي جاء إلى القاهرة في أغسطس عام 1898، وتوجه إلى إحدى الحانات، وشرب الخمر والحشيش، ثم عاد إلى الفندق الذي كان مقيماً به، فوجد الجوّ حاراً، ففتح الشباك وجلس فيه، فغلبه النعاس، فهوى إلى الشارع، فصدم بنزوله شرفة، فكسرت ساقه، وسقط على رأسه إلى الأرض، فتهشمت جمجمته ومات في الحال.

وقد نقلت جثته إلى الأقصر حيث دُفن هناك في يوم 27 أغسطس، ويدلل الكتاب والمؤرخون بهذه الحكاية على حالة الهوس التي أحدثها الترام في القاهرة، والتي انتقلت إلى جميع مدن مصر، ودفعت الكثيرين بالمجيء إلى العاصمة، للمشاركة في «مهرجان الحياة» والاستمتاع بالسهر في البارات والملاهي الليلية.

اقرأ أيضا: «الملاك المصري».. حكاية طبيب يُعالج النيجيريين منذ 50 عامًا
«الترام».. «عفريت» غير حياة المصريين
«الترام».. «عفريت» غير حياة المصريين

ثورة عمرانية

ثورة عمرانية هائلة أحدثها الترام في العاصمة؛ دُفن الوجه القديم للمدينة تحت الأنقاض حيث تحولت العشش والأرض الخراب إلى منازل على الطراز الحديث، وتغيرت نظرة السكان إلى المنازل، فبعدما كانوا يفضلون السكن في الحارات الضيقة والأزقة المسدودة، ويدفعون الثمن الأعلى لآخر بيت منها، لبعده عن الحركة والضوضاء، صاروا يفضلون السكن في الشوارع الواسعة، القريبة من خطوط الترام.

ونتيجة لهذا التطور، تألفت في عام 1905 شركة بلجيكية لإنشاء حي جديد في هليوبوليس، ونظراً لثقل هذا الاسم على ألسنة العامة فتم استبدله باسم حي «مصر الجديدة»، وتوالت المشاريع العمرانية الحديثة، وتضاعفت أسعار الأراضي القريبة من سكة الترامواي.

اقرأ أيضا: في ذكرى غرق «تايتانيك».. حكاية «الناجي» المصري والضحايا اللبنانيين
«الترام».. «عفريت» غير حياة المصريين
«الترام».. «عفريت» غير حياة المصريين

الأدب الترامي

سهل الترام من لقاءات الكتاب والمفكرين، الذين صاروا يجتمعون على مقاهي الأزبكية وحاناتها، وكان لذلك تأثيره في إنعاش الحركة الثقافية والفكرية والوطنية، وظهرت الكثير من المجلات والصحف، وكان لذلك كله تأثيره على الأدب، حيث ظهر ما سمي بـ«الأدب الترامي» وهى تلك الكتابات التي ظهرت في الفترة من 1896 وحتى الحرب العالمية الأولى في عام 1914، وقد تناول «الأدب الترامي» الثورة التي أحدثتها خطوط الترام في حياة المصريين.

وقد انقسم الكتاب إلى فريقين أحدهما مؤيد للترام، مشيدًا بالتطور والانفتاح الذي أحدثه الترام في القاهرة، والآخر يندد بالانهيار الأخلاقي، والدمار الذي ألحقه هذا الاختراع الحديث بحياة الشباب في مصر، وكان على رأس هذا الفريق الكاتب مصطفى لطفي المنفلوطي الذي تناول أخلاق شباب العصر الترامي في العديد من المقالات تحت عنوان «الآداب العامة»، حيث كتب في إحدى مقالاته: «يتحدث كثير من الناس عن فئة من الشباب المصريين المتعلمين قد ظهروا في هذه الأيام، واتخذوا لأنفسهم في حياتهم العامة طريقاً غير الطريق اللائقة بهم وبكرامتهم، فأصبحوا مبتذلين في شهواتهم، ينتهكون حرمات الأعراض ما شاءوا وشاءت لهم نزعاتهم ويعبثون بها في كل مكان، عبث الفاتك الجريء، الذي لا يخاف مغبة، ولا يخشى عاراً».

اقرأ أيضا: «عم طارق».. حكاية مجرم حرب ألماني عاش في مصر متخفياً لمدة 30 عاماً
«الترام».. «عفريت» غير حياة المصريين
«الترام».. «عفريت» غير حياة المصريين

شلل القاهرة

بعد مرور 15 سنة على بداية تسيير الترام وفى عام 1911م، أعلن عمال شركة الترامواي «التروماي» الاعتصام، ما أدى إلى إصابة القاهرة بالشلل التام جراء الاعتصام، الذي كانت له أسبابه الوجيهة منها المطالبة برفع أجورهم أسوة بالعمال الأجانب الذين عادوا للعمل بعد انتهاء الحرب في أوطانهم في الشركة وإعطاءهم امتيازات لهم على حساب المصريين.

اقرأ أيضا: يتعلق بها الموتى وكسرها يجلب النحس.. خرافات وحقائق عن «المرايات»
«الترام».. «عفريت» غير حياة المصريين
«الترام».. «عفريت» غير حياة المصريين

عودة العربجية للمشهد

انتهز «العربجية» الفرصة وقاموا برفع ثمن الأجرة، وأورد مراسل التايمز البريطانية التي اهتمت بالتغطية معلومة طريفة، بأن العربجية يدفعون جانبا من مكاسبهم لعمال الترامواي حتى يستمروا في الإضراب فترة ممكنة مما يزيد فرصتهم لملء جيوبهم من المال.

وبعد تدخل رئيس الوزراء ومحافظ القاهرة محمود باشا فخري، تم عقد اجتماع مع الشركة أسفر عن تكوين لجنة توفيق أوضاع بين الشركة والعمال، حيث طالبت اللجنة بالاستجابة للعمال دون رفع زيادة الأجرة على الركاب.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى