

كلما رن جرس الباب، ورأيت هذا الرجل الذي يرتدي زي المطعم يعطيني بأدب جم الطعام داخل مربع كرتوني أو أي لفافة أخرى، اضحك .. اضحك كثيراً، فربما لا أزال أعيش في أيام ما قبل «الديليفري».
الآن كل شيء على هاتف مسطح شاشته باللمس .. لكل شيء تطبيق .. فلا تنزعج أبداً .. ماذا تريد؟ هناك تطبيق على هاتفك لما تشتهيه؟.
نظن أن الحياة تغيرت وأصبحت أسهل.. لكن الحقيقة؛ لا بالعكس أصبحت مزعجة أكثر.. كلنا منزعجون من شيء لا نعرفه.. على الرغم من أن كل شيء أصبح عند أطراف أصابعنا.. كلنا قلقون وغاضبون داخلنا لأننا أصبحنا نبحث عن شيء ولا نعلم ماهو بالأساس.. كلا منشغلون رغم أنه لا يوجد ما يشغلنا.
أضحك كثيراً كلما قابلت رجل الديليفري؛ لأني اتخيل جلستنا في بيت جدتي أكثر من 20 فرد – أحياناً يزيد-؛ شيوخ وشباب وأطفال، عائلات تجتمع في مكان صغير، لكن الأرواح متناغمة، بلا تكلف مصطنع، أو وجود لـ«براندات» وماركات عالمية، اسمها يخترق كلامنا بلا أي داع.
يسرح خيالي وأنا استرجع المشهد في حال شعورنا بالجوع مثلاً أن يقترح أحد أن نطلب ديليفري، فماذا سيكون رد فعل الجالسين؟، بالتأكيد السخرية، «يا سلام.. واحنا قاعدين كده نتصل بالمطعم يجيب لنا الأكل لحد البيت»، وبالتأكيد ستكون التعليقات النسائية «بس الأكل إزاي هيمشي بيه في الشارع، ممكن يبرد»، «إيه القرف ده!، ده تلاقيه هيجَلِد –أي يصبح مثل الجلد- ويبقى ملوش طعم».
فما كان يحدث حقيقة وقتها.. أبسط كثيراً، لكنه كان أعظم بمراحل، فإذا شعرت جدتي مجرد شعور بعيد أو خاطر أن أحد الموجودين يساوره شعور بالجوع، بكل بساطة تدخل إلى المطبخ الصغير، 10 دقائق فقط، ليس إلا!. وتجد سفرة مجهزة بكل شيء عشاء فاخر وبسيط جداً، مكرونة بالصلصة ولحمة مفروم معصجة، وصينية بطاطس عليها أوراك الفراخ وبطاطس محمرة وسلطات، في 10 دقائق فقط.. سبحان الله.
أو إن كان المزاج في عشاء، 10 دقائق فقط، ليس إلا!، فول بالطحينة وفول بالبيض وجبنة قريش بالطماطم وبطاطس محمرة وعسل أبيض وعسل أسود بطحينة وعجة وطعمية «بيتي» وبطاطس محمرة وسلطات. والروعة الكامنة في القرنبيط المقلي –العظيم الذي كنا نكرهه- أو كرات الزبد البيضاء الصغيرة التي تحضرها الفلاحة وهي تسقط في طبق الفول وتذوب ببطء ولا يبق منها إلا طعماً ينفجر في المخ من فرط الجمال.
كان بين الحين والآخر صوت أم كلثوم يأتي من الراديو يقطع الجلسة وهي تغني «كنت بشتاق لك وأنا وانت هنا» فتجد صوت من بعيد لاثنان يلعبان الطاولة «علي الصوت شوية.. مش سامعين» وتبدأ الدندنة معها وسط ملل من الشباب وصوت للجيل القديم يقول بكره لما تكبروا هتحبوها، أو عبد الوهاب يغني «يطوف بالحب قلبي.. فراشة لا تبالي» فتجد آخراً يقول «إطفي البتاع ده»؛ فيصر آخر على السماع ويبدأ نقاش لا ينتهي حول الأغاني والطرب، فريق يشجع العندليب وآخر عشاق ثومة و واحد لا يستمع إلا لفريد الأطرش وفائزة أحمد.
أخيراً؛ السؤال الذي لا أجد إجابة عليه، ربما تعرف الإجابة عزيزي القارئ أكثر مني، من أين كانت تأتي موضوعات النقاش، من أين؟؟؟، فجلسة لمدة 5 ساعات لا يتوقف فيها الحديث مطلقاً، بشكل شبه يومي، صداع من كثرة الأصوات، لكننا اليوم إذ جلسنا معاً نمسك بالهواتف ولا نجد ما نقول.. سوى تعليقات متكلفة عما نكتبه لبعضنا البعض على مواقع التواصل.. من أين كان يأتي التواصل؟. هل كنا نعرف بعض أكثر؟.. أم أننا كنا أبسط وتعقيدات الحياة كانت أهون.