محيي الدين بن عربي.. فيلسوف الإسلام أم خارج على الملة؟
لم يكن لقاء سهلًا وعابرًا؛ ذلك الذي وضع محيي الدين بن عربي، أحد أهم فلاسفة الصوفيين والذي عرف فيما بعد ذلك اللقاء بـ «الشيخ الأكبر»، بين يدي قاضي قضاة الأندلس، والشارح الأكبر لأرسطو، الوليد ابن رشد.
ولقد سعى ابن رشد في فلسفته إلى التوفيق بين الدين والفلسفة، وعندما طلب لقاء محيي الدين بن عربي، الصبي اليافع في ذلك الوقت؛ سأله عن ما وجده في خلوته حينما اعتزل الناس؟ فقد ذاع صيته في قرطبة والأندلس وإشبيلية. وسأله هل ما غيره وأيقظ عقله هو الكشف الإلهي حقًا؟ وحينها ابتسم الصبي وقال: نعم ولا، وبين نعم ولا تطير الأرواح.
لاشك أن الدهشة تملكت من ابن رشد وإن أخفاها في أعماقه، فقد كان من ضمن ما يشغله بشكل رئيسي، هو كيف أصبح محيي الدين ابن عربي عالمًا فطنا في ليلة وضحاها؟ دون درس أو بحث، أو مطالعة.. فهل من الممكن أن يدخل المرء خلوته جاهلًا، فيخرج مشعًا بنور العلم الإلهي كما وصف ابن عربي تجربته؟
من الأندلس إلى دمشق
ولد محيي الدين ابن عربي في مدينة «مرسية» جنوب شرق إسبانيا، التي أسسها عبد الرحمن الداخل عام 825م، ومن أهم شخصياتها في التاريخ الإسلامي أبو العباس المرسي، الذي استوطن الإسكندرية فيما بعد، ومازال بها مسجده الشهير. انتقلت به أسرته وهو في الثامنة من العمر إلى إشبيلية، حيث ودع طفولته بها، وعاش بين علمائها وشيوخها، وسرعان ما حزم أمتعته وبدأ رحلاته إلى الشرق وهو دون العشرين من العمر.
نادى «ابن عربي» بمبدأ وحدة الوجود، بمعنى أن العالم ليس إلا ظلا لله، ويمكن فهم فلسفته من خلال فهمه لاسم «الحي»، فالحياة تسري في هذا الكون نتيجة لتأثير هذا الاسم الإلهي، فما من شيء إلا ويسبح بحمد الله، ولا يسبح بالله إلا عالم بمن يسبح وبما يسبح. وهو يختص أهل الكشف الصوفي والعلم الإلهي، يقدرتهم على المعرفة، فالجماد والنبات لهم أرواح، ولكن لا يدركها غير أهل الكشف، الكل عند أهل الكشف حيوان ناطق. ويحرص محيي الدين بن عربي على تأكيد أن هذه الحقائق لا يصل لها أصحاب التفكير النظري، وإنما يهتدي إليها أصحاب الذوق الصوفي.
في مصر؛ واجه «ابن عربي» دعوات عنيفة تطالب بإراقة دمه، ولم ينجُ إلا بشفاعة أبي الحسن البجائي. اتجه إلى الحجاز، وهناك وضع كتابه «ترجمان الأشواق»، ثم انتقل إلى بغداد، ثم الموصل، ثم أقام سنوات ليست قليلة في بلاد الروم، ثم عاد مرة أخرى ليستقر في مدينة دمشق حتى لفظ فيها آخر أنفاسه، ودفن فيها.
من الذي أعلن الحرب على المتصوفة؟
وقف الإمام ابن تيمية خصمًا للمتصوفة عبر التاريخ، ويعد الخصم الأكبر لـ محيي الدين بن عربي على وجه الخصوص. فقد رفض ابن تيمية مبدأ وحدة الوجود منذ البداية، واعتبره كفرًا وشركًا بالله، وقال عن المتصوفة: «إنهم لفرط انجذاب قلوبهم إلى ذكر الله وعبادته ومحبته، ضعفت قلوبهم عن أن تشهد غير ما تعبد، وترى غير ما تقصد». ووضع ابن عربي في أعلى درجات الكفر والزندقة والمروق من الدين. وظل يهاجم التصوف والمتصوفة في كل موضع؛ حتى أنكر عليهم قولهم إنهم في نشوتهم الكبرى لا يرون إلا الله، ويذهلون عَمَّا سواه.
وقال الإمام شمس الدين الذهبي، عن كتاب «فصوص الحكم» أنه من أردأ مؤلفات محيي الدين ابن عربي، «إن كان لا كفر فيه؛ فما في الدنيا كفر». وقال ابن خلدون إن مؤلفات المتصوفة وعلى رأسهم محيي الدين ابن عربي، مليئة بصريح الكفر، ومستهجن البدع، وتأويل الظواهر على أبعد الوجوه وأقبحها، مما يستغرب الناظر فيها من نسبتها إلى الملة أو عدها في الشريعة.
لماذا لم ينتهِ ابن عربي؟
في نفس الوقت الذي زادت فيه آراء المفكرين والفقهاء، في تغليظ الحكم على «بن عربي» بالكفر والزندقة وأعمال الابتداع؛ خرج جماعة أخرى من علماء المسلمين ينظرون إلى محيي الدين بن عربي نظرة العالم الجليل، ويرون ما تركه فيه نفع للإنسان وعلم عظيم. مثل الفيروز آبادي صاحب القاموس المحيط، حتى إنّه طرّز شرحه على البُخاريّ بكثير من أقواله.
ووضع جلال الدين السيوطي كتابًا كاملًا للرد على كل من رمى ابن عربي بالكفر والضلال، بعنوان «تنبيه الغبيّ في تبرئة «ابن عربيّ». وقال فيه أن كتب محيي الدين بن عربي لا ينبغي أن ينظر فيها من هو على غير علم كاف. وأن من لم يكن مؤهلا لقراءة ابن عربي ويدخل عالمه دونما أن يكون لديه علم كافٍ فحتما سيختلط عليه الحق من الضلال.
قطب الأقطاب وسلطان العارفين
وفي منتصف القرن العاشر الهجري، وضع عبد الوهاب الشعراني، كتابًا بعنوان «اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر»، وكتاب «تنبيه الأغبياء على قطرةٍ من بحر علوم الأولياء»، وفيهما دفاع شديد عن ابن عربي، وغيره من المتصوّفة. وبلغ به الأمر أن لخّص كتاب الفتوحات المكّية في كتابه الشهير «الكبريت الأحمر في بيان علوم الشيخ الأكبر»، مع إضافة بعض الشروحات التي راجت في وقتها وأعادت لمحيي الدين ابن عربي الجانب المنصف في فلسفته وكتاباته.
اقرأ أيضًا: ناشرون: هذه الدورة تجذب القارئ الفعلي وتكشف معرض الكتاب على حقيقته
وقد كان الإمام المجتهد شيخ الإسلام العز بن عبد السلام، ينكر على ابن عربي مسألة الكشف الصوفي، ومناداته بمبدأ وحدة الوجود العليا في أول أمره. لكنه لما قرأ كتاباته جيدًا؛ عرف مقامه، ثم رجع عن إنكاره، وشهد له أن الإمام محيي الدين بن عربي قطب زمانه.
ومن هذا المنطلق الذي تتعدد فيه آراء العلماء والمفكرين المسلمين عبر التاريخ من الوقوف من محيي الدين بن عربي؛ ترفض دار الإفتاء المصرية في الوقت الحالي، مسألة إجماع أهل السنة على تكفير الإمام محيى الدين بن عربي، والملقب عند السادة الصوفية وغيرهم بـ الشيخ الأكبر وسلطان العارفين وخاتم الأولياء. وتصفه بأنه أحد أئمة الأعلام والورثة المحمديين الذين جمع الله لهم بين سمو شرف العلم وعلو درجة الولاية.
وفي الآونة الأخيرة؛ شهدت الساحة الأدبية إقبالًا على الأدب الصوفي، وصدرت العديد من الروايات التي تتناول الشخصيات الصوفية وتقف على الجانب المجهول في سيرتها الذاتية، مثل رواية «قواعد العشق الأربعون» للكاتبة التركية إليف شافاق، عن جلال الدين الرومي وشمس التبريزي. ورواية «فضاء أزرق لحلم غامض» للقاص والروائي المصري محمود عبد الله تهامي، عن سيرة محيي الدين بن عربي. ومؤخرًا وضعت الدكتورة غادة العبسي رواية مهمة تقف فيها على شخصية حافظ الشيرازي صاحب الديوان الشرقي، بعنوان «ليلة يلدا».