حكايا ناس

ممالك تحت حكم النساء.. عندما يتزاوج العرش والأنوثة

دُهش القادة الإنجليز عندما رأوا الملكة ماري (1516- 1558) تركعُ على ركبتيها أمامهم، في أول برلمان لها وقت توليها السلطة خلفًا لأخيها، هذا الفعل ليس مُعتادًا من الشخص الذي يجلسُ على العرش، وحينها بدأ اللوردات يوجهون الملكة إلى ضرورة الإسراع في الزواج من شخص مناسب، مستخدمين بعض الكلمات لأول مرة يتم التعامل بها مع ملك مثل: ينبغي، ويجب.. إلخ. وسرعان ما أدركوا أن الوضع كله استثنائي، فالملك هذه المرة أنثى!

 

هل مثل إنقاص قيمة المرأة مرحلة ضرورية من عمر البشرية؟ صحيح أن مع عصر النهضة في أوروبا بدأت المرأة تخرج من البيت والدير، وتجلس على كرسي الحكم، لدرجة أنه خلال أربعين عامًا (1553- 1603) لم يجلس على عرش إنجلترا رجل واحد، وتعتبر ابنتا الملك هنري الثامن: ماري الكاثوليكية، وأختها إليزابيث البروتستانتية. أبرز النسوة في تاريخ إنجلترا، إحداهما تمثل القسوة والجحود، وأخرى تمثل الجمال والحكمة، تعلقت بكل منهن قرارات خطيرة، ليس في الحرب فقط، وإنما بهوية البلاد الدينية والثقافية.

يمكن القول إن اتصال المرأة بالسلطة كان عاملًا حاسمًا في تغيير نظرة المجتمع لمكانتها، إلا أن هذه المكانة التي مُنحت للمرأة لم تكن اختراعًا إنكليزيًا فهي مجرد استعادة لما كانت عليه المرأة قديمًا، فالمرأة في الحضارة الفرعونية على سبيل المثال وزيرة وملكة وإلهة، ولقد نجحت النساء في مختلف الحضارات كقادة أن يظهرن شجاعة فائقة في مواجهة الأوبئة والتهديدات العسكرية، والحروب الأهلية.

ومع التحولات التي مرت بالحضارات وتداخلها مع أخرى، تراجع وضع المرأة، وصارت محصورة داخل البيت، بعيدة عن السلطة. ولكن هل يحدث هذا التراجع فجأة؟ أو هل تولد المرأة امرأة خاضعة ومُستلبة.. أم أنها تصير كذلك؟

تقول سيمون دي بيفوار في كتابها الشهير “الجنس الآخر”، إن الرجل “ظلّ سيد المرأة كما هو سيد الأرض الخصبة، إنها مكرسة لتكون خاضعة ممتلكة، مستغلة كالطبيعة التي تمثل خصوبتها السحرية وتتلقى المكانة التي تتمتع بها في عيون الرجال، إنهم يركعون أمام الآخر يعبدون الإلهة الأم ولكن مهما بدت هذه قوية فهي مدركة عبر مفاهيم الوعي الذكوري أن كل الآلهة التي ابتدعها الرجل مهما صنعها مخيفة هي في الواقع تابعة له ولهذا سيكون بمقدوره تدميرها”.

حتى وإن كانت المرأة عفيفة ومجتهدة، فهي نجسة، محاطة بالمحرمات، لا تقبل شهادتها في المحكمة، ومن السهل اتهامها بالخيانة، دون أن يكون لديها فرصة لنفي التهمة عن نفسها، وغالبًا ما تُرجم أو تُقتل، ونادرًا ما نلمح في التاريخ محاكمة رجل بتهمة الخيانة الزوجية، حتى عندما كانت المرأة تحكم العالم، فهي لا يمكنها أن تجهر بنديتها للرجل، وأن تسلبه المكانة الأولى، وإن كانت بعض التصرفات قد حملت ذلك المعنى.

عجز الرجل عن استيعاب أسرار المرأة وغوامض مكنونها، فراح يراها مخلوقًا مسكونًا بالشر والأساطير، وفي القرون الوسطى كان يمنحُ الزوجُ حق الليلة الأولى لكبير الكهنة في البلدة، من أجل تخليصها من دم البكارة والتي كان يعتقد في أنه دمُ المخلوقات الشريرة التي تسكنُ المرأة.

وتنحصر مكانة المرأة في تاريخ مختلف الأمم -شرقية أو غربية- في الأعمال المنزلية فقط. وعند موت زوجها يفرضُ العرف أو القانون أن تتزوج الأرملة الشابة شقيق المتوفي، ونصادف عادة زواج السلف هذه لدى كثير من شعوب الشرق، والغرب أيضًا، فقد حارب الملك هنري الثامن من أجل استصدار فتوى من بابا روما تقر بأن زواج الملكة كاثرين من أخيه لم يكتمل، وبالتالي فهي تحل له زوجة شرعية، ولكن بمرور الوقت لم تنجب له سوى ابنته الكبرى “ماري”، ومع كبرها في السن ضاع الأمل في إنجاب وريث ذكر منها، فانقلب على الدولة البابوية، وأعلن عداءه للمذهب الكاثوليكي الذي حال دون طلاقه منها، واستصدر حكما بعدم شرعية زواجه من “كاثرين” وبالتالي يمكنه الزواج من محبوبته “آن بولين”، والتي ستنجب له “إليزابيث” وسرعان ما يشعر أن لا أمل منها في إنجاب الملك المستقبلي لإنكلترة، فيدعي خيانتها له ويقضي بفصل رأسها عن جسمها في “هامبتون كورت” وهي تصرخ بأنها لم تكن وفية لأحد سواه.

أثارت مسألة حكم المرأة في إنجلترا لغطًا، خاصة وهي تسعى تجاه نظام ملكي يختلف كلية عن النظام الإمبراطوري، فالنظام الملكي له ضوابط، ويؤمن بالحدود بين البلدان، وبالهوية القومية، وبالتالي فإن أسرة تيودور المتفرقة في فرنسا وإنكلترا وإسبانيا واسكتلندا، تصبح في مأزق عندما تحكم البلاد ملكة، فلابد للملكة من مَلِك، ماذا لو أتى الملك من جنسية أجنبية؟ هل سينتمي إلى دولته أم إلى إنجلترا؟

الملكة ماري الأولى

توارثت أسرة تيودور الحكم بين أبناء هنري الثامن بعد وفاته: إدوارد السادس، ماري، إليزابيث. ومن المعروف أن الحكم يُورث للابن الأكبر سنا، لكن بما إن شركاء إدوارد هما أنثتين، فقد آلت إليه السلطة وهو دون العاشرة من عمره، ومن مفارقات القدر أن الوريث التيودوري الذكر، رحل في الخامسة عشر من عمره، لكنه عمل طوال هذه الفترة القصيرة ومع صغر سنه على إرساء دعائم المذهب البروتستانتي في المملكة، وأثناء فترة مرضه نصحه مستشاروه ألا يؤول الحكم إلى أخته الكاثوليكية ماري، والتي ستهدم كل إصلاحات أبيه الدينية، ولذلك أوصى بتوريث العرش لقريبة له تدعى جين غراي.

جين غراي.. الفتاة ذات الخمسة عشر عامًا، والتي رفضت العرش لأنها لا تستحقه، لكن أصحاب النفوذ في البلاط الملكي أجبروها على القبول، وفوجئت بعد تتويجها بتسعة أيام فقط، بعدد من الحرس يقتادونها إلى السجن، حيث نجحت ماري بمعاونة أقربائها باستعادة أحقيتها في العرش، لكن وجود جين غراي ظل جرس إنذار يطرقه أعداؤها لتحذيرها دومًا، ولذلك أمرت بفصل رأسها عن جسمها، وهي في السابعة عشر من العمر.. لم يتصور أحد حجم البشاعة التي ارتكبتها تلك المرأة في البلاد، فسرعان ما انقلبت على البروتستانت، وعلقت لهم المشانق، وأشعلت المحارق أيامًا، حتى قيل إن الشوارع كانت تفوح منها رائحة اللحم المحروق، وهكذا عَرفها التاريخ باسم ماري الدموية.

SHE WOLVES- HELEN CASTOR

وقد ذكرت البروفيسورة Helen Castor، في كتابها «She-wolves»، ما كتبه الأسكتلندي جون نوكس في كتاب «النفخ الأول في البوق ضد النظام المتوحش» 1558م، يقصد نظام حكم النساء، ويرى أن الدعوة لتسليم المرأة السلطة أو الحكم أو السيطرة على أية مملكة أو أمة أو مدينة، لهو شذوذ عن الطبيعة وإساءة إلى الله، وأمرٌ مناقض لوصاياه المنزلة وتشريعه المقبول، وأخيرا إنه تشويه للنظام السليم في المساواة والعدل.

رأى “نوكس” أن حكم النساء متوحشٌ وغير طبيعي ومشين، لأن النساء تابعات للرجال وفقا لتشريع الله والطبيعة، وهكذا يصرح بأن عهر وفجور “ماري” الروحاني جعلها أسوأ ابتلاءات الله. فالنساء ناعمات وضعيفات، ولكن المرأة التي كانت تظهر القوة، لم تكن مكافئة للرجل وإنما وحش، بل ينظر لها على أنها جريمة ضد الطبيعة، وهكذا فقد أعلن “نوكس” أنه بسبب طغيان ماري الدموي، لا تستحق لقب امرأة. ونلاحظ أن مثل هذه الاتهامات لم توجه لوالدها هنري الثامن الذي قتل اثنتين من زوجاته وأغرق البلاد في فتن طائفية من أجل البحث عن مبرر ديني لزواجه في كل مرة.

كان وضع المرأة في مصر القديمة هو الأفضل نسبيا بين الحضارات القديمة، حيث صارت إلهة ورمزًا للوحدة الدينية، واحتفظت بهيبتها الاجتماعية، وبكونها مُكملا للرجل لا تابعة. ولديها نفس حقوق الرجل ونفس القوة القانونية، فهي ترث وتملك وتحكم أيضًا. ورغم ذلك فإننا لو حاولنا أن نتتبع صوت المرأة عبر التاريخ، لما أمكننا الوصول لشيء يُذكر، صحيح أننا نعرف عن النساء، ولكن من وجهة نظر الرجل. فقد استبعد الإغريق النساء من المسارح، وأغفلت العديد من إبداعات النساء في الفن التشكيلي، ولقد أنكر جون هوارت أية مواهب للمرأة، ويقول “شامفور” إن ليس لهن أن يتعاملن مع جنونا ولا مع عقولنا لأنهن الجنس التابع. وفي كتاب السياسة، ربط أرسطو بين انهيار إسبرطة ومنح المرأة حقوقًا مساوية للرجل في الحكم والوراثة والملكية. وهكذا نجد كل ما تربت عليه المرأة من قصائد ورسائل ومعارف هي من آثار الرجال.. وبالتالي إذا قلنا إن العالم يفتقد التربية الأنثوية فنحن لا نكون مخطئين كثيرًا.

إن التنوير الذي شهدته أوروبا في عصر النهضة، مكمنه شعور الإنسان بذاته، وتحوله من شخص فاقد الأهلية، إلى شخص مؤهل، وكما كانت هذه الأهلية مقصورة على طبقة معينة، كانت مقصورة على الرجل فقط في جميع الطبقات، وهكذا لا يمكننا أن نجزم بدقة إذا كانت المرأة سُلبت منها أهليتها عنوة، كما تقول سيمون دي بيفوار، أم أنها تنازلت عنها بطيب خاطر؟

أن نكون بلا أهلية؛ أمرٌ يرفعُ عن كاهلنا المسؤولية، بل يطيب لنا أن يكون الكتاب بديلًا للعقل، والكاهن بديلا للوعي، والطبيب مرشدًا للدواء، وليس من مبرر للتفكير، فالآخر كفيل بتوفير جهدي، وإن غالبية البشر -وليس المرأة فقط- يدركون أن طريق الأهلية وعرٌ ومحفوف بالمخاطر. وهكذا يمكن القول إن تأخر المرأة في شعورها بأهليتها جعل الأوصياء يحرصون على عدم اعتمادها على نفسها، ويحذرونها من ذلك، بل ووصمها بالغباء أيضًا، فهي كلما حاولت أن تترك المشاية التي اعتادت الاعتماد عليها -الرجل- واجهها احتمال أن تسقط على الأرض، وإذا حدث ذلك مرة فإنه كفيل بإثارة الفزع في نفسها وتثبيط همتها من إعادة المحاولة.

وإذا تأملنا الرحلة التي قطعتها المرأة الإنجليزية منذ إليزابيث الأولى التي رفضت أن تتزوج، وأن تبقى على العرش بلا رجل يعطيها الشرعية للحكم -أو بالأدق يمنحها الأهلية- وألهمت قواتها لصد الأسطول الإسباني، حتى الملكة زنوبيا في القرن الثالث، التي تحدت الحكم الروماني، وتمارا ملكة جورجيا، “أسد القوقاز”، والملكة جينجا من أنغولا التي تصدت للمستعمرين البرتغاليين، وكاترين العظمى ملكة روسيا، مرورًا بإنديرا غاندي، ومارجريت تاتشر، وغيرهن..

سنجد أن لديهن شيئًا واحدًا مشتركًا: وهو الخروج من الأزمة بأقل خسائر ممكنة، وإذا تطلب الأمرُ القتال نجد الملكة تبادر بالنزول على رأس جيشها كما تدافع الأم عن ولدها، مثل البطلات الفيتناميات ترونج تراك، اللواتي أرسين دعائم الاستقلال والحرية لأول مرة في البلاد، والقائدة راني لاكشميباي، التي قاتلت البريطانيين بنفسها في الهند حتى آخر قطرة دم.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى